أقمار الصحافة

الصحفي الشهيد سعيد الطويل: صوت الحقيقة الذي أسكته العدوان

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

في فجر العاشر من أكتوبر 2023م، استشهد الصحفي الفلسطيني سعيد رضوان الطويل، رئيس تحرير شبكة “الخامسة للأنباء”، إثر غارة جوية إسرائيلية استهدفت برج حجي في شارع المؤسسات غرب مدينة غزة. كان سعيد، البالغ من العمر 37 عامًا، من أبرز الإعلاميين في القطاع، حيث جمع بين العمل الصحفي والتدريس الأكاديمي، وكان على وشك إنهاء رسالة الدكتوراه في الإعلام السياسي.

عرف سعيد بذكائه وحضوره الطيب، وكان ناشطًا مجتمعيًا بارزًا، أطلق مبادرات نوعية لخدمة مجتمعه. كما كان من المؤثرين الإعلاميين على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تميز بأسلوبه القريب من الناس، خاصة من خلال عموده اليومي “أخبار عالريق” الذي كتبه باللهجة العامية.

في الأول من أكتوبر، كتب سعيد: “بدينا اليوم بشهر جديد، إن شاء الله يكون أحسن من الأشهر اللي راحوا بخيره ورزقه وستره. وإللي من الله يا محلاه”. لم يكن يعلم أن هذا الشهر سيشهد رحيله، ليترك خلفه زوجة وأربعة أطفال، وحزنًا عميقًا في قلوب محبيه.

سعيد الطويل… ودّع بكلمات أمل ورحل بفاجعة

قبل عشرة أيام من استشهاده، وتحديدًا في الأول من أكتوبر 2023، كتب الصحفي سعيد الطويل كلماته الافتتاحية في عموده اليومي “أخبار عالريق”، قائلاً باللهجة الغزية الدارجة: “بدينا اليوم بشهر جديد، إن شاء الله يكون أحسن من الأشهر اللي راحوا بخيره ورزقه وستره. وإللي من الله يا محلاه”.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

كانت تلك الكلمات بداية رسالة صباحية يومية اعتاد أن يوجهها لأهالي غزة، يتشارك معهم فيها الأمل رغم الحصار، ويدعو لهم بطمأنينة يتقنها من عاشوا الأزمات وواجهوها بالكلمة لا بالسلاح.

وفي ختام ذات العمود، كتب: “ربنا يجعل شهر 10 شهر خير وبركة ورزق، ويسترها معانا ويبعد عنا المرض والفقر وسوء الاختيارات وفواجع الأقدار”.

لم يكن يعلم، ولم تعلم عائلته، أن فاجعة القدر ستخطفه هو نفسه بعد أيام، ليصبح هو “فاجعة أكتوبر” التي لن تُنسى في بيت عائلته. تقول زوجة شقيقه محمد: “كان سعيد قرة عين العائلة، الابن الأكبر، الحامي، والداعم، ورجل المواقف والمناسبات. كان محبوباً من والديه، وأطفالي كانوا يتعلقون به كثيرًا. كان يزرع البهجة بمفاجآته ويمنحنا حبًا لا يُنسى. فقدناه جسدًا، لكنه ترك فينا روحًا وأثراً لا يمحى”.

حكاية وجع في قلب أم وشقيق

بعيون غارقة في الحزن، تتساءل أم الصحفي الشهيد سعيد الطويل: “لا أعلم ما الجريمة التي ارتكبها ابني ليتم استهدافه بهذا الشكل المباشر!”، ترددها بقلب أمٍ فُجعت بفلذة كبدها. وتُحمّل الاحتلال مسؤولية استهداف الصحفيين ووسائل الإعلام، معتبرة أن الهدف هو طمس الحقيقة وتزييف الرواية أمام العالم.

تقول أم سعيد بصوت مرتجف: “أنتظره كل دقيقة أن يدخل من الباب، لا أصدق أنه استشهد، وأنني لن أضمه مجددًا إلى صدري”. وتضيف: “لحظة استشهاده كانت أصعب لحظة في حياتي”. فالساعة كانت تشير إلى الثانية فجرًا، في العاشر من أكتوبر، حين أبلغها أبناؤها وزوجها، بعد تردد وألم، بأن الاحتلال استهدفه بشكل مباشر أثناء تغطيته لغارة غربي مدينة غزة.

في مشهد لا يقل وجعًا، كتب شقيقه الأصغر هيثم الحلقة الأخيرة من زاوية “أخبار عالريق”، التي لطالما أطل بها سعيد على جمهوره. قال فيها: “عند الثانية والنصف فجرًا، شعرت وكأن عمري تسعين عامًا. سعيد استشهد. لا زلت عالقًا في تلك اللحظة… لا أعرف كيف أتجاوز وجع فقدانه”.

ويستذكر هيثم أخلاق شقيقه الكبير: “كان دائم الوصية بطاعة أمي، يحثني على الصلاة، ويسألني إن احتجت شيئًا. كان محبًا للناس، واسع الثقافة، طليق اللسان”. رحل سعيد، لكن كلماته وذكراه باقية، تمامًا كوجع الفقد الذي لم يبرأ.

حين أصبح الخبر هو كاتبه… حكاية سعيد في سطوره الأخيرة

في صباح السادس من أكتوبر، أطلّ الصحفي سعيد رضوان الطويل على جمهوره كعادته من خلال عموده اليومي “أخبار عالريق”، في حلقته رقم 1201. لم ينسَ، رغم ضغوط الحياة والحرب، أن يبدأ صباحه برسالة حب وتقدير لفئات المجتمع، قائلاً بلهجته القريبة من القلب: “#صباح_الخير لكل معلمة صحيت من الفجر، صلت، طبخت، لبّست أولادها، وجهزتهم وطلعت ع مدرستها… #صباح_الخير لكل طفل بيكافح وبيروح ع مدرسته مشي، ومش كل يوم بياخد مصروف لأنه عارف ظروف أهله… الله يجبر الخاطر”.

في حلقته الأخيرة من العمود ذاته، كتب سعيد عن أربعة شهداء ارتقوا في الضفة الغربية خلال 24 ساعة، وإضراب الأسير كايد الفسفوس عن الطعام، ونجاة 30 مهاجرًا فلسطينيًا من الغرق، واحتفال جباليا بـ241 حافظًا جديدًا للقرآن. سطّر كل ذلك بلغة إنسانية آسرة، تختتم دائمًا بتحليل دافئ وتعليق شخصي يمنح الخبر روحًا.

ولم يكن يدري أن حلقاته ستنتهي فجأة، وأن اسمه سيكون هو الخبر. ففي 10 أكتوبر، وبينما كان يؤدي واجبه الصحفي بتغطية القصف الإسرائيلي على غرب غزة، استُهدف سعيد بشكل مباشر، ليرتقي شهيدًا، تاركًا خلفه عمودًا لم يكتبه، وصباحًا انتظره القرّاء ولم يأتِ.

في نعي سابق لشهداء العدوان على غزة، كتب سعيد: “فاز في هذه الجولة بضعة وثلاثون… وصلوا إلى نهاية السباق على الحياة بارتقاء جليل… حاول ذلك قرابة المائتيْن، وخسر بقية المنتظرين. سنعود إلى المنزل ولن نغادر الميدان”، وذيّلها بهاشتاغ “#رحم_الله_السعداء”، لكنه لم يعد إلى منزله، بل صار أحد “السعداء”، كما كان يصفهم.

رحل سعيد بجسده، لكن صوته ظلّ حيًا في قلوب من اعتادوا صباحاته، ومقالاته، وحضوره الدافئ. لم يكن مجرد صحفي ينقل الخبر، بل كان قلبًا نابضًا بالحياة، يرى في كل سطر فرصة للأمل، وفي كل مأساة مساحة للصدق. استشهد وهو يحمل الكاميرا والقلم، سلاحه في مواجهة التزييف، تاركًا خلفه أثرًا لا يُمحى. وسعيد، الذي كتب عن الشهداء، صار اليوم أحدهم… لكنه سيبقى حيًا في كل “صباح خير” يفتقد صوته، وفي كل قارئ يتذكر كم كان للصدق وجه يشبهه.

 

ألبوم صور من حياة الشهيد الصحفي سعيد الطويل:

زر الذهاب إلى الأعلى