جمال زحالقة: نتنياهو يقوّض الصفقة ويهدد بالانتقام
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
في مؤتمره الصحافي الإثنين الماضي، وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كلامه إلى الشارع الإسرائيلي، في محاولة لفرملة تزايد المشاركة في الاحتجاجات المطالبة بعقد صفقة، تضمن تحرير المحتجزين الإسرائيليين في غزة، مقابل هدنة مؤقتة وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين من السجون الإسرائيلية. ويبدو أن نتنياهو يستطيع التعايش مع المظاهرات بقوتها المتوسّطة الحالية، لكنّه يخشى عودة سيناريو «ليلة إقالة غالانت» في مارس العام المنصرم، التي خرج فيها ما يقارب مليون إسرائيلي إلى الشوارع، ما أدّى إلى شل الحياة بشكل شبه كامل، وما أجبره على التراجع عن الإقالة. وما دامت المظاهرات والمسيرات في إسرائيل بالحجم الذي هي عليه الآن، فإن نتنياهو يهاب معارضة بن غفير وسموتريتش للصفقة، أكثر بكثير من خشيته من مطلب المتظاهرين بالإسراع في التوصل إليها لإنقاذ حياة المحتجزين الإسرائيليين.
حاول نتنياهو، بأساليب الكذب والتضليل والتمويه التي يتقنها، إقناع مشاهديه ومستمعيه بأنه ليس السبب في عدم التوصّل إلى صفقة، وأن اتهامه بذلك هو «خدمة للسنوار». وفي مسعى لتبرير موقفه عرض نتنياهو خريطة لغزة، وحاول أن يبرهن بأن سيطرة الجيش الإسرائيلي على محور فيلادلفيا هي مسألة استراتيجية، وأن هذه السيطرة هي الضمان الوحيد لعدم تدفق الأسلحة إلى حركة حماس. وفي رسالة إلى الإدارة الأمريكية، أشار نتنياهو إلى أنّه على استعداد لإعادة انتشار للجيش على طول محور فيلادلفيا، لكنه يرفض الانسحاب منه، إلا في إطار «الحل الدائم»، حين يتوفّر طرف يمكن الوثوق به لاستلام المحور. واتضح من كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه وحكومته، بقرار رسمي منها، يصرّان على بقاء الجيش في محور فيلادلفيا لسنوات طويلة.
ليس صعبا تفنيد كلام نتنياهو عن محور فيلادلفيا، لكن حديثه جاء للتغطية على غايته الفعلية، وهي منع التوصّل إلى صفقة. وأوضح «مسؤول كبير» لصحيفة «هآرتس» حقيقة الأمر، قائلا: «منذ أسابيع قرر نتنياهو أنّه لا يريد صفقة. وعندما صارت ممكنة، أحس بتوتر شديد، وعمل كل ما يستطيع لإفشالها. هو فحص ووجد أن التلويح بمحور فيلادلفيا يمكن أن يقنع اليمين المعتدل (بدعم موقفه)، وأنه سيربح من ذلك نقاطا مهمة. الإعلام وقع في الفخ وانشغل بالسؤال نعم أم لا، للبقاء في محور فيلادلفيا، في حين أن السؤال الحقيقي هو إنقاذ المحتجزين أم إنقاذ الحكومة».
التمحور حول محور فيلادلفيا
هناك عدة أسباب لتحويل نتنياهو مسألة عدم انسحاب الجيش الإسرائيلي من محور فيلادلفيا، إلى قضية مبدئية واستراتيجية من الوزن الثقيل. لقد وجد فيها ضالّته في التمحور حول محور فيلادلفيا ونقل الموضوع إلى المركز وشغل العالم به وبأبعاده المختلفة، وأهدافه من ذلك هي:
أولا، التشويش على تعاظم الاحتجاجات، عبر الطرح بأن ما يمنع الصفقة هو «إصرار حماس» على انسحاب إسرائيل من محور فيلادلفيا وليس موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي. كما يبغي نتنياهو إقناع الإسرائيليين بأن محور فيلادلفيا مهم جدا لأمن الدولة الصهيونية، وأن الانسحاب منه لتمرير الصفقة هو من «الكبائر» ويفتح أبواب الأنفاق أمام إعادة تسلّحها.
ثانيا، يحاول نتنياهو، منذ أشهر طويلة، دفع حماس لرفض التوصل إلى صفقة، عبر زرع اليأس من إمكانية قبول إسرائيل لما تقبل به هي. حماس لم تقع في هذه المصيدة، وكان موقفها رصينا ومسؤولا ومرنا إلى حد كبير، فهي تعرف جيدا أنّ ما يسعى إليه نتنياهو هو تحميلها مسؤولية فشل الصفقة. وفي مؤتمره الصحافي عاد نتنياهو وردد أكذوبة أنه هو الذي يقبل وحماس هي التي ترفض. أسلوب نتنياهو مأخوذ من عالم الدعاية الفاشية وهو أن تكرار الكذبة يحولها إلى حقيقة بأعين الناس.
ثالثا، يسعى نتنياهو إلى قطع الطريق على مبادرة «خذها أو اتركها» الأمريكية، والتي يعتبرها البعض الفرصة الأخيرة، وتشترط الولايات المتحدة التعامل معها بالقبول (خذها)، أو الرفض (اتركها)، مع انعدام إمكانية إدخال تعديلات عليها. لقد أصبح محور فيلادلفيا حجر الزاوية في الموقف الإسرائيلي، ما يشكّل ضغطا على الولايات المتحدة لدمجه في المبادرة الجديدة، ومن شبه المستحيل أن تجرؤ إدارة بايدن على تجاوز هذا الموقف الإسرائيلي وعلى عدم أخذه بعين الاعتبار.
رابعا، ما غاب عن المؤتمر الصحافي، الذي عقده نتنياهو، هو السؤال هل هناك أدلة حقيقية على أنفاق مفتوحة ومتصلة بين الجانبين المصري والفلسطيني. من استمع إليه يظن أن هذه هي الحقيقة وأنه جرى تهريب الأسلحة والذخائر عبر أنفاق محور فيلادلفيا. لقد تابع أحد الصحافيين الإسرائيليين هذا الموضوع وطلب أدلة ومواقع لأنفاق مفتوحة، وفشل في الحصول على جواب مقنع من الجيش والشاباك والحكومة. كعادته في ممارسة التضليل، كذب نتنياهو بالادعاء أن تدفق الأسلحة عبر الأنفاق كان متواصلا إلى حين احتلال الجيش الإسرائيلي للشريط الحدودي مع مصر. الأنفاق مردومة منذ سنوات طويلة، والأسلحة الموجود في غزة مصدرها قديم قبل سد الأنفاق، أو هي من صنع محلي. خطاب نتنياهو جاء ليحوّل كذبة تهريب الأسلحة عبر أنفاق محور فيلادلفيا إلى أمر مفروغ منه ليس بحاجة إلى إثبات.
خامسا، يسعى نتنياهو لترميم سمعته بوصفة «سيّد الأمن» في إسرائيل، وبأنّه الوحيد الذي يتمسّك بالمواقف الحازمة والصارمة في مصلحة أمن الدولة الإسرائيلية. هو يريد أن يكسب المزيد من النقاط ويعوّض الخسائر، حتى يعود ليكون «بطل إسرائيل وحاميها» وينتخب مرة أخرى رئيسا للوزراء.
المفاوضات
يكرر المسؤولون الأمريكيون الحديث عن تقدم في المفاوضات وعن قرب التوصل إلى اتفاق لو أبدى الطرفان، حماس وإسرائيل، مزيدا من المرونة. ويصرون على ترديد هذا الحديث، حتى بعد قرار الكابينت الإسرائيلي وبعد تصريحات نتنياهو الحاسمة في مؤتمره الصحافي بشأن الإصرار على عدم الانسحاب من محور فيلادلفيا. وفي مقابل التفاؤل في العلن، الذي يبدو تفاؤلا أبله، يقول المسؤولون الأمريكيون في السر بأنهم في حالة يأس وإحباط بشأن سير ومصير مفاوضات الصفقة والهدنة. وحتى بعد أن أقفل نتنياهو الباب وبلع المفتاح، تحاول إدارة بايدن ترويج فكرة أن الحل ممكن رغم تراكم الصعوبات والعراقيل. وعليه من المتوقّع أن تأتي المبادرة الأمريكية الجديدة والمتوقّعة بتكرار ما جاء في مبادرة بايدن في مايو الماضي عن انسحاب القوّات الإسرائيلية من المناطق المأهولة، والادعاء بأن محور فيلادلفيا بعيد بمعظمه عن الضواحي والأحياء السكنية، والانسحاب الإسرائيلي الكامل يكون من المناطق القريبة منها فقط. هذا هو «الحل الوسط»، الذي قد تطرحه واشنطن، التي ستدعي حتما بأنها متمسكة بالمبادرة الأصلية في الوقت الذي تحيد عنها بشكل حاد. مهما كانت المقترحات الأمريكية ومهما كانت مرونة حماس، يبدو أن نتنياهو «لن يسمح» بتمرير اتفاق على الصفقة، خاصة في ظل تزايد التهديدات من بن غفير وسموتريتش بإسقاط حكومته. في مفترق الصفقة أو الحكومة نتنياهو يختار الثانية بالتأكيد. والحقيقة أنه في غياب إرادة أمريكية بالضغط الفعلي على الحكومة الإسرائيلية، فأن أي مبادرة أمريكية جديدة لن تكون سوى «قربة فارغة» ولن تأتي بأي خير وستكون مجرد «غيوم ورياح ولا مطر».
التهديد بالانتقام
من أخطر ما جاء في كلام نتنياهو في مؤتمره الصحافي، هو التهديد بتدفيع حماس الثمن لمقتل المحتجزين الإسرائيليين الستة. وحين سئل عن معنى «تدفيع الثمن» على قضية عينية في حين أن الهدف المعلن هو محو حركة حماس، قال نتنياهو إنه متمسك بالقضاء عليها، وتدفيع الثمن مرتبط بالرد السريع، وذكّر أن إسرائيل في الماضي وعدت بالانتقام ونفّذت فعلا، وأضاف: «نحن نحضر الرد ولا أستطيع ان أقدم تفاصيل حوله للمحافظة على عامل المفاجأة». وقد تفعلها إسرائيل قريبا، خاصة أن التهديد الإيراني بالرد على اغتيال هنية لم يخرج إلى الآن إلى حيّز التنفيذ، فهذا يجعل القيادة الإسرائيلية مفتونة بذاتها وبقدرتها على فعل ما تشاء بلا حساب أو عقاب.
يجب أن تؤخذ تصريحات نتنياهو هذه بمنتهى الجدية. من حيث الزمان هو يتحدث عن تنفيذ الانتقام في وقت قريب. ومن المتوقّع أن يكون الرد في مواقع لا تسبب لإسرائيل حرجا سياسيا مثل غزة ولبنان وإيران واليمن. والواضح أنّه يسعى إلى عملية اغتيال تلهب المشاعر في الشارع الإسرائيلي وتزيد من شعبيته وتبرّد الاندفاع نحو المشاركة في الاحتجاجات والمظاهرات.