فـي مـديـح الـخـريـف
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
كتب: عبد الغني سلامة:
يوشك الصيف أن يغادر، وها هو يلم أوراقه استعدادا للرحيل، بعد أن أذاقنا موجات حر شديد لم نعهدها من قبل، حتى أنَّ مدينة مثل رام الله تضررت سمعتها كَـ»مصيف»، بعد أن بلغت فيها درجات الحرارة مستويات قياسية، ولم يعد امتلاك المكيف خيارا، لدرجة أنه صار ضيفا مقيما في أغلب بيوتها، بعد أن كانت مهنة التكييف قبل عقدين من الزمان من المهن الكاسدة.
سيرحل هذا الصيف مثلما رحلت عشرات الأصياف من قبله، وسيترك المسرح لفصلٍ جديد، هو الخريف؛ والذي سيدوم من نهاية أيلول حتى نهاية كانون الأول.. وهذه الأشهر بالنسبة للتقويم الميلادي هي آخر فصول السنة؛ بمعنى أن السنة مع حلول الخريف تكون قد نضجت واكتملت وتوضحت معالمها.. وتكون الأشهر قد تعبت وآن لها أن تستريح.. أما إذا وضعنا تقويمنا البشري جانبا، فإن الخريف بالنسبة لدورة الطبيعة على كوكب الأرض قد يكون الفصل الأول، وقد يكون الأخير؛ فدورة الحياة والطبيعة مثل الدائرة، لا يعلم أحد على وجه اليقين متى تبدأ ومتى تنتهي، البعض يرى أن الربيع بداية الدورة السنوية للطبيعة، لأنه يشهد انبثاق الحياة من البذور، وتدفق المياه في عروق النباتات، وتولد معظم الثدييات، وتفجر الينابيع وسيلان الوديان، وتفتح البراعم والورود والأزاهير.. لكن آخرين يرون أن الشتاء هو بداية الدورة، لأنه بمثابة فترة الحمل بالنسبة للكائنات الحية وبقية عناصر الطبيعة.
الفلاح الفلسطيني (وسائر فلاحي نصف الكرة الشمالي) يرون أن الخريف هو بداية الحياة، فهو فترة حراثة الأرض، وتهيئة التربة، ونثر البذور، وشق القنوات.. ومن بعده يأتي كل شيء.. وبالنسبة للعديد من الكائنات هو موسم التزاوج لكي تضع مواليدها مع حلول الربيع.
عموما، مع أن البدايات تكون دوما جميلة وواعدة ومحملة بالأمل والتفاؤل، لكن الاقتراب من النهايات يكون أجمل؛ في حياة الإنسان خريف العمر هي الفترة الذهبية، عند هذا الحد من العمر يكون قد خاض تجاربه كلها، واستهلك أحلامه، ورأى بعض ما تحقق منها، وما خاب وصار مجرد ذكرى طريفة أو أليمة، ينظر إلى ماضيه بحنين وشوق، وإلى أيامه وقادمها بهدوء وطمأنينة، يكون وعيه قد اكتمل أو أوشك على الاكتمال، بعد أن نضج على نار السنين والمعاناة.
على أي حال، وبالعودة إلى فصول السنة، إذا كان الصيف جميلا بلياليه الصاخبة وحركته الدؤوبة وبأعنابه وتينه وصبره وبطيخه.. فهو شديد الحر، وبرطوبة لزجة تضيق الأنفاس. وإذا كان الشتاء جميلا بأجوائه البيتوتية والشاعرية، ونيران مواقده، وبلياليه الطويلة، حيث يطيب النوم والكسل تحت الأغطية الدافئة.. فإنه ينقلب إلى جحيم من زخات الأمطار والرعود المخيفة والرياح العاتية والثلوج التي تتحول إلى زائر ثقيل.. وأكثر ما يكون ثقله على الفقراء واللاجئين.
باختصار، كلا الفصلين متطرف، حتى أن جمهوريهما المنقسمين إلى حزبين متصارعين هما أيضا متطرفان، يتشدد كل حزب بحب فصله والتغني فيه، وفي هجاء الفصل الآخر.. والغريب أن لكل رأي وجاهته ومعقوليته! في حين يأتي الخريف حلا وسطا، معتدلا في كل شيء، لكنه بلا جمهور وبلا حزب.
ولطالما تغنى الشعراء والأدباء بـ»الريح التي تعوي تحت النافذة»، و»المطر الناعم الذي يدق الشبابيك»، «ومدفأة الحطب التي تنام في دفئها قطة».. أو بـ»ليالي الصيف على أسطح البيوت»، و»احتساء القهوة في صباح تموزي»، و»اكتمال البدر في سماء صافية».. حتى صارت مثل هذه التعابير مكررة ومبتذلة.. مثلها مثل أوصاف الربيع. قلة قليلة من متذوقي الجمال تغنوا بالخريف وانتبهوا لجمالياته البديعة وتفاصيله المخبأة والمغيبة.
قمر تشرين، والغيوم الواعدة، والطيور المهاجرة، والأوراق المتساقطة على أرصفة الشوارع، وحمرة أشجار القيقب، وتعري اللوزيات والتفاحيات والحور والصفصاف لتجدد نفسها، وتلفظ كل قديم ومستهلك، والألوان الدافئة للجاكاراندا والزيزفون والسماق، ووقت الغروب، ونجم سهيل، وموسم قطاف الزيتون، وتصليب الرمان وعبق الجوافة الفواح، وتقلبات الطقس ومفاجآت كل صباح جديد، وأمل الفلاحين بموسم جديد يحمل الخير والأمطار، وتحصين أسقف بيوتهم حتى لا تدلف.. كلها عناصر الخريف ومن سماته البديعة.
في الخريف، يعتدل الجو، فلا موجات حر قائظة، ولا منخفضات قطبية، لا ريح عاتية ولا أعاصير، ولا سكون يجلب الناموس ويكتم الأنفاس.. إن أمطرت يكون وابلا ناعما ينعش الروح، وإن أقفرت السماء من السحب تطلع شمس حنونة.. في الخريف (كما هو الربيع) يتساوى الليل مع النهار، ثم تتسع الهوة بينهما حتى الانقلاب الشتوي، فيكون أطول ليل، وأقصر نهار..
في أول الخريف بقايا صيف، وفي آخره رائحة شتاء.. تعيش آخر أيام الصيف وفي نفسك توديعه مع محاولة استدراك ما فاتك منه، وفي قلبك حنين غامض لشتاء قادم، وصورة حالمة لثلجةٍ تبقيك في البيت حبيسا لأسبوع.. في هذه الأشهر لا تضطر لتشغيل المكيّف، ولا تحتاج مدفأة، لذا سينخفض استهلاكك للطاقة حتى النصف.. ولا تكون مجبرا على ارتداء معطف ثقيل يحميك من برد قارس، أو قبعة تقيك من شمس لاهبة.
وللخريف سمات أخرى؛ فمع بداية الخريف تفتح المدارس والجامعات أبوابها، لتستقبل ألوف الطلبة على مقاعدها، وليفتح الآباء والأمهات قلوبهم متفائلين بعام جديد، ومواعيد مرتقبة مع أفراح التخرج، وأفراح تقدم أبنائهم سنة أخرى.
وبالنسبة للطيور، فقد أدركت قبل البشر بملايين السنين أن الشتاء في شمال الكرة يقابله صيف في جنوبها، لذا اختارت الخريف موسم هجرتها، فنرى أسرابها محلقة في أجوائنا في التشارين، وتحط زائرة خفيفة في استراحات بلادنا استعدادا لرحلتها الطويلة نحو الجنوب، حيث الدفء.
وفلسطين، من المناطق المحظوظة التي حباها الله بأربعة فصول كاملة، تتداول السلطة كل عام بسلاسة وبمواعيد محددة وتنويعات مدهشة، وخيرات كثيرة.. وبمناخ معتدل.
المشكلة، أن التغير المناخي خرّب كل شيء، ولم يبقِ جمالاً لصيف، ولا وداعةً لشتاء، ولا شاعرية لخريف.. صار الطقس متطرفا بمظاهره وبـحـرّه وجفافه وفيضاناته وأعاصيره.. هنا، وفي كل أرجاء المعمورة.