مقالات الخامسة

نادية حرحش: الحق قوة جارحة… كشيخ القدس جراح

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

بين العبارة والأخرى، أراد نبيل (صاحب أحد البيوت المهددة بالإخلاء) ان يوصل رسالة أكبر من تلك التي تنحصر في قضية بيت وعائلة. أراد ان يؤكد، او ينبه الضمير الإنساني المستتر ان القضية ليست قضية عائلة او بعض العائلات. انها قضية القدس منذ الاحتلال.
ما عشناه على مدار سبعة عقود لم يتغير ولم تتبدل سياسة الاحتلال نحو أبناء هذه المدينة. التهجير هو أحد ركائز الوجود الإسرائيلي على هذه الأرض. تهجيرنا مقابل وجودهم.
وكما لا نستطيع ان نرى من مخططاتهم الا سوئها، لأننا نعيشه. هم لا يروننا الا فائضا عن هذه الأرض بزوالنا يكون وجودهم.
لا اعرف من اخترع اكذوبة اننا نريد رميهم الى البحر؟ لأن الحقيقة مغايرة تماما. لن يرمونا بالبحر لأنهم لا يحتاجون ذلك. سيصفوننا حتى اخر رمق.
قضية الشيخ جراح وسكانها هي قضية كل مقدسي…. هذه عبارة لا مبالغة فيها.
كنت شاهدة على هدم عشرات البيوت قبل أكثر من عقد ونصف من الزمن اثناء عملي في مجال حقوقي ضد هدم البيوت. كنت اتجرع الم أصحاب البيوت التي صارت ذكرياتهم للتو ركاما. المشهد التالي لكل هدم بيت كان يتبعه في خيالي سلسلة من الأفكار المتسائلة؛ كيف ناموا تلك الليلة، الى اين سيذهبون، كيف سيتحملون، كم سيتحملهم الأقارب؟ كم هو الاشقى ان يحرم الانسان من بيته.
هذا ما يريده لنا الاحتلال الترحيل والتهجير… بالإضافة الى كل ما يسعه من تنكيل وتعجيز واضطهاد على مدار اخذ الانفاس… حتى نرحل.
بالأمس بينما كنت جالسة مع الرجل الصابر على البلاء، اشاهد من بعيد ابنته الشابة تدافع بعنفوان عن حقها في حديث صحفي. أحاول بقدر المستطاع الدعم ولو بكلمة، ولو بجلوس الى جانبه على تلك الاريكة المعبأة برائحة المياه العادمة منذ الليلة الماضية.
بانتظار، بلا مهادنة، بإصرار مليء بالقوة على الوجود. بإصرار صاحب الحق على عدم الخضوع او الخنوع.
بناتي في المقابل، اصرين على التواجد المسائي مع العائلات في وقفات المؤازرة مع العائلات.
كل ليلة اضع يدي على قلبي وادعو ان تمر الليلة بلا جروح تدمي القلوب.
أخاف ان انظر الى الصور المتداولة في كل مكان.
وشعوري لا يتغير بكون بناتي هناك في قلقي. اردد عاليا بفضاء الكلمات لبناتي: الوطن بحاجة لكم احياء، اصحاء، احرار.
وافهم تماما تدفق الدم في عروق الشباب.
شعورهم بالحاجة للتعبير عن القمع الساكن في وجدانهم.
لا يفهمون من الاحتلال الا ما يرونه. وهي حالة فرضت من تذويته بداخلهم يحاربونه بشدة.
بين قلق الام والق الشباب تركت امري الى الله.
اعطي نصائح كالبلهاء: انتبهوا، لا تقتربوا من الجنود، لا تقوموا بأي عمل ارعن، حافظوا على قواعد الاعتصام لكيلا يتم اعتقالكم.
وبناتي عند الحديث هذا يذكرنني بمقولة جبران خليل جبران عندما قال: ابناؤكم ليسوا ابناءكم.. انهم أبناء الحياة المتعطشة لوجودها.
هذه العبارة تلخص كل شيء.
اسمع معانيها وافهمها عندما أقف في مواجهة ابنائي تلك التي يفصلها بيننا الأجيال. أحاول عبثا اقناعهم ان الحكمة تتوجب علينا عدم الخوض في مواجهات خاسرة.
الا انني بموضوع الشيخ جراح لم اعترض، او أكون قد استسلمت. الحقيقة انني سلمت، وعرضت ان اذهب معهم.
تسليمي بالأمر مرتبط بتلك العبارة ” انهم أبناء الحياة المتعطشة لذاتها”.
هكذا يكبرون
هكذا يفهمون
هكذا يحررون أنفسهم من قيود مكبلة عشناها نحن الكبار في محاولات تجنب المخاطر بانتظار تحريرنا من الخارج.
بانتظار قدوم صلاح الدين
وعرفات
وأبو مازن
واي محرر منتظر….
هذا الجيل لا ينتظر المحرر القادم.
يريد ان يقول كلمته.
ولا يأبه بالنتائج
لا يأبه بالتحرر
لا يأبه بالقمع
كل ما يريده ان يقول كلمته هو.
كلمته التي تحرره هو
بطريقته هو
بما يشعر به هو.
تركت ابنتيّ بالأمس ليخرجوا من جديد على امل الا تكون ليلة تطلق فيها المياه العادمة من جديد، والا يستبيح جنود الاحتلال والياتهم القامعة عنفهم وهمجيتهم ضد المؤازرين من المتواجدين.
يغنون، ينشدون، يصطفون الى جانب العائلات بأضعف الايمان وأفواه… متحدين خوفهم من جبروت قامع.
صار ذهابهم حماية لبعضهم البعض. مجموعة من الشباب تآزروا وتوحدوا من اجل حق بديهي من اجل بيت.. سكن. امن أساسي لإنسان.
ربما بداخلهم يخشون الترحيل الذي لم يعيشوه ويسمعون عنه ويتردد امامهم وخلفهم ويشكل ماهيتهم كفلسطينيين. كقلادة تحمل خارطة فلسطين التاريخية حول اعناقهم، تشدهم اليها كلما نسوا، او تناسوا او التهوا.
حذرت ابنتي كما كل يوم…
تمنيت ان تنتهي هذه المحنة التي يعيشها هؤلاء السكان فتعود ابنتي الى حياتها كشابة.
لتقلق على درس ووزنها وقطعة ملابس تريد ان تشتريها. تمنيت ان تنتهي هذه المحنة ونعود لنناقش امورنا اليومية من اراء نختلف عليها ومواقف شخصية يحتدم النقاش بها. تمنيت لو ترجع أكبر اهتماماتي عودتي من العمل غاضبة لأن البيت ليس نظيفا والفوضى العارمة في المنزل أكثر سيطرة لمدى عيني.
تركتها لتذهب واستحلفتها ان تنتبه. ان تبتعد عن أي احتمال بالمسهم لها.
كم نخشى على خدشهم…
كم نرتعب عليهم…
كم يستحيل الحوار كهذا عندما يكون غريمك هو سلطة احتلال لا تراك الا هدفا تصنع منه قوتها القامعة.
سلّم الله ابنتي….
لم ترحمها ركلة عابرة في خضم غوغائية المعتدي ضد المعتصمين.
ليس أصعب من تلك اللحظة التي تأتي عبر هاتف لتقول لك لا تقلقي كل شيء بخير
نحن في المستشفى
كل شيء بخير
مجرد إصابة على الرأس
مجرد قطبة، اثنتين، ثلاثة، أربعة لا تقلقي
كل شيء بخير
تلك اللحظة وانت لا تزالين في وسط حلم التقطت خلاله الهاتف… لا تدري ان كنت صاحية ام نائمة.
لحظة….
كل ما تتمنينه ان يكون الصوت الذي يحاول تهدئة روعك على الجانب الاخر صادقا لا يكذب عليك.
لحظة لا تجد الدموع لها مكانا
تتوقف الدنيا
وتبدأ بالدوران بك
لحظة ترفع نفسك الى السماء في البحث عن الله مستجديا حمايته
ويحميك
يا رب…. لا توجع قلب ام على ابنها.
فجرح الشيخ جراح كاسمه…. جراحه باسمه…. لا يمكن التخلص منها…. ولكن ليحفظ الله شبابنا من حقد الاحتلال.
الحق قوة جارحة…. كشيخ القدس جراح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى