مقالات الخامسة

حرب الليرة.. ليست أول حروب أردوغان ولكنها أخطرها

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

بقلم: د. سمير الددا

تتصدر الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تركيا حاليا اهتمامات وسائل الاعلام الاقليمية والدولية, والملفت هو إصرار الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على الاستمرار في خفض سعر الفائدة رغم ما نتج عن ذلك من انخفاض حاد في قيمة بلاده.

المتابع لتقلبات سعر صرف الليرة التركية في الاشهر القليلة الماضية سيطبق شفتيه ويمطهما شفقة على السياسات النقدية المحيرة التي تنتهجها السلطات التركية, وقد يكون محقاً اذا ما أخذ في الاعتبار البعد الفني فقط وبمعزل عن أي اعتبارات اخرى.

بداية لعله من المفيد الاشارة سريعا الى ان العملة التركية الليرة شهدت الكثير من التذبذبات في رحلتها التي تزيد عن المئة عام, حين طُبعت الليرة التركية أول مرة عام 1927 بالحروف العثمانية قبل ان يعاد طبعاتها بالحروف اللاتينية سنة 1937 وكانت أول دفعة من العملات الورقية من فئة 5 و10 و50 و100 ليرة وكانت تحمل صورة  مصطفى كمال أتاتورك اول زعيم تركي بعد العهد العثماني وبعده حملت الليرة صورة  خليفته عصمت إينونو سنة 1939 والذي في عهده طبعت اول عملة من فئة نصف المليون ليرة الى تم طباعة فئة المليون ليرة عام 1995, واستمر العمل بهذه العملة الى ان قامت حكومة العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب اردوغان بداية عام 2005 بحذف 6 أصفار من أرقام العملة التركية ليصبح كل مليون من الليرة القديمة يساوي ليرة جديدة (نيو ليرة) وفي عام 2009 تم حذف كلمة جديدة (نيو) ليعود اسم العملة التركية “ليرة” كما كان سابقاً, أي انه في عهد اردوغان تم معالجة التضخم المزمن الذي عايشته تركيا لعدة عقود, فالرجل يعرف ما هو التضخم وله تجربة في التعامل معه.

والملفت ايضاً ان الليرة شهدت ومازالت انهياراً كبيراً في السنوات القليلة الماضية في عهد أردوغان إذ انحدرت قيمتها من 2.8 ليرة مقابل الدولار الواحد في مطلع نوفمبر 2015 الى اكثر من 18 ليرة للدولار قبل عدة ايام, وهذا يذكر بسعر صرف الليرة عام 2001 عندما كان الدولار الواحد يساوي (1.650.000) مليون وستمائة وخمسون الف ليرة….!!!!!.

أما الذي يدعو للدهشة هو أن الرئيس اردوغان يصر على الاستمرار في خفض سعر الفائدة ما يعني مزيدا من اضعاف لقيمة الليرة, ولا أظن ان عاقلاً محباً لبلاده يصر على تعمد الاضرار بها وبدون هدف…..!!!!!

المعروف عن الرئيس رجب طيب أردوغان أنه سياسي متمرس, خبير في شؤون الحكم, رجل دولة من طراز رفيع  وله باع طويل في عالم السياسة, فهو أشهر الساسة الاتراك في العصر الحديث وأطولهم بقاءاً في السلطة, الرجل في سدة الحكم منذ عقدين تقريباً ومازال, أي أطول من فترة حكم مؤسس تركيا الحديثة (بعد نهاية الخلافة العثمانية) ومؤسس حزب الشعب الجمهوري وأول زعيم حكم تركيا بعد عهد العثمانيين, مصطفى كمال اتاتورك والذي حكم لمدة 15 سنة تقريبا وكذلك أطول من فترة خليفته السياسي المخضرم مصطفى عصمت إينونو الذي ترأس الحزب لمدة 35 عاما تقريباً وحكم تركيا هو الاخر لمدة 15 سنه تقريباً, أي ان اردوغان لديه تجربة سياسية تفوق تجربة أي سياسي تركي آخر, وله كاريزما طاغية وأغلب الظن أن الرجل فوق الشبهات ولا احد يشك في اخلاصه لبلاده وغيرته على مصالحها سواءاً اتفقنا مع سياساته او لم نتفق.

على الارجح ان رجلاً بوزن أردوغان يدرك تماماً خطورة الاصرار عى الاستمرار في سياسة خفض سعر الفائدة رغم أثرها الخطير الذي قد تتركه على الاقتصاد التركي بما في ذلك تدهور سعر صرف العملة وبالتالي ارتفاع الاسعار نتيجة انهيار القيمة الشرائية لليرة  ناهيك عن ارتفاع تكلفة الواردات والالتزامات التركية الخارجية بالعملات الاجنبية, وقطعاً يدرك ايضا خطورة كل ذلك على شعبيته وشعبية حزبه في الانتخابات القادمة والمقررة منتصف عام 2023 والتي تطالب أحزاب المعارضة بتقديم موعدها وإجرائها عام 2022.

اذن السؤال الكبير ما هو هدف الرئيس اردوغان من وراء خفض سعر الفائدة وسعر صرف الليرة…؟؟؟,

الرجل كما أشرنا محترف سياسة وعلى الأغلب ان هدفه سيكون له ابعاد سياسية تبرر خطورة ابعاده سياسته (الخاصة بسعر الفائدة) وما سببته من أضرار جسيمة لحقت بالشعب التركي بما في ذلك نسب التضخم الهائلة وتكاليف الواردات والارتفاع الكبير في الاسعار محليا, وهذا بالفعل ما ذهب اليه بعض المراقبين ممن هم مطلعين على بواطن الامور ينصحون بالتريث, اذ ان هناك أبعاداً اخرى لها اهمية حاسمة في هذا الملف وتبرر سياسات الرئيس التركي.

يذكر مراقبون للشأن التركي بما يردده اردوغان في خطاباته “بأن تركيا تواجه حرباً اقتصادية واعدا شعبه “بتحقيق الانتصار وعدم الانحناء في وجه الضغوط الأجنبية”, ويربط هؤلاء المراقبون بين هذه التصريحات والتوتر التي تشهده منذ سنوات العلاقات التركية الامريكية من جهة, والعلاقات التركية مع عدد من دول المنطقة الحليفة للولايات المتحدة من جهة أخرى, ولأسباب عديدة, ورغم ان الولايات المتحدة حليفاً لتركيا كونهما عضوين في حزب شمال الاطلسي (الناتو) الذي يتواجد على الاراضي التركية في قاعدة انجرليك الهامة التي يوجد بها أسلحة استراتيجية ولا يخفى على احد ان القوات الامريكية هي صاحبة الكلمة الاولى والأخيرة في هذه القاعدة, ورغم كل ذلك  لم تغفر واشنطن لأنقرة خروجها عن طاعتها والتجرؤ على شراء منظومة الدفاع الاستراتيجي اس 400 من روسيا, الامر الذي رفضته بشدة حينها الولايات المتحدة وشنت هجوماً شرسا على تركيا للضغط عليها بهدف ارغامها على إلغاء صفقتها مع موسكو وإعادتها الى “بيت الطاعة الامريكي” , هذا مع العلم ان واشنطن رفضت مرات عديدة طلبات تركية متكررة للحصول منظومة باتريوت, الامر الذي دفع انقرة الى اللجوء الى المنظومة الروسية البديلة لما لها من أهمية فائقة لاحتياجات أمنها القومي, مما عرضها لعقوبات اقتصادية امريكية مباشرة وغير مباشرة من خلال حلفاء واشنطن في المنطقة.

هذا بالإضافة الى تمدد انقرة في شمال سوريا والعراق وتدخلها القوي في كلا من الملف الليبي و أزمة قطر وتواجدها المؤثر في شرق المتوسط والتنقيب هناك عن الغاز مما اثار حفيظة اسرائيل وقبرص واليونان وغيرها من الحلفاء لواشنطن في تلك المنطقة, فأوعزت الولايات المتحدة مراراً لأنقرة للكف عن استفزاز هؤلاء الحلفاء والتخفيف او التوقف عن تلك النشاطات, فكان رد انقرة انها لها الحق ان تمارس سيادتها وتتصرف وفقا لمصالحها, فرأت واشنطن ان ترسل لها رسائل قاسية.

وبالفعل اصبحت هناك ضغوط امريكية ودولية وإقليمية على تركيا تسعى الى زعزعة امنها واستقرارها وإلحاق الضرر باقتصادها، وذلك للتأثير على شعبية اردوغان وصرف ناخبيه عن حزبه وسياساته وبالتالي إزاحته عن الحكم والتخلص من نظامه.

بعض الخبراء والمحللين يروا ان زيارة نائب حاكم ابو ظبي والحاكم الفعلي لدولة الامارات الشيخ محمد بن زايد لتركيا في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر الماضي جاءت في هذا السياق المشار اليه, وأن اصرار الرئيس اردوغان على استمرار خفض الفائدة على الليرة التركية لتخفيض قيمتها هو بمثابة رده على طلب ابن زايد في سحب وتحويل استثمارات اماراتية بالمليارات في الليرة التركية الى دولار….!!!!!.

وفي الوقت نفسه أراد أردوغان ان يوجه ضربة مؤلمة للمضاربين بالعملات الاجنبية على حساب الليرة, حيث تشير مصادر مقربة من الرئاسة التركية انه بالإضافة الى الامارت هناك شريحة مهمة تقدر رؤوس اموالهم بمئات مليارات الدولارات من المستثمرين الاجانب الى جانب بعض المضاربين الاتراك الكبار ممن لهم ارتباطات مالية خارجية يوجهون استثماراتهم نحو المضاربة على العملة التركية وخصوصا عند إرتفاع سعر الفائدة لتحقيق مكاسب سريعة بدون ادنى اضافة حقيقية الى الاقتصاد التركي, هذا علاوة على خطورة هذا السلوك الاستثماري المحفوف بالمخاطر, فانه يتعارض تماما مع قناعات اردوغان وخلفيته الايدولوجية المحافظة وكذلك توجهات حكومته التي قدمت كافة التسهيلات لهؤلاء المستثمرين من أجل حثهم على انشاء مشاريع حقيقية وزيادة الانتاج وخلق وظائف جديدة وتنشيط عجلة الاقتصاد.

وهذا ما دفع الرئيس أردوغان الذي يوصف “بعدو الفائدة” للتصدي لهؤلاء بطريقة غير عادية، فلجأ الى خفض سعر الفائدة بدلاً من رفعه بعدما تبين له ان سبب ارتفاع الأسعار لم يكن فائضاً نقدياً كبيراً وفقا للنظريات الاقتصادية التقليدية التي تملي رفع سعر الفائدة في مثل هذه الحالة، بل ارتفاع الاسعار كان وراءه اسباب اخرى منها تضخم تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع اسعار الوقود عالميا وارتفاع تكلفة عناصر الانتاج والمواد الخام, ناهيك عن الاغلاق وتعطل الأعمال بفعل جائحة كورونا.

قبل يومين برهن الرئيس اردوغان انه يمتلك مفاتيح اللعبة,,,, بمجرد تصريحات ادلى بها ارتفعت قيمة الليرة قبل يومين من حوالي 18 ليرة الى حوالي 11 ليرة للدولار, وهذا من شأنه أن يبعث برسائل طمأنة للشعب التركي بأن سعر صرف الليرة ليس خارج السيطرة كما يروج البعض, وان خفض معدلات الفائدة له فوائد متعددة ابرزها أنها قادرة على الحفاظ على فرص العمل في القطاع العام، ويمكنها دعم الاستثمار التجاري في الأصول الثابتة من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من أهداف التنمية, وقيمة الليرة المنخفضة تزيد من الطلب الخارجي على الصادرات التركية وجذب اعداد اكبر من السياح وكذلك زيادة عدد الاجانب (خصوصا ممن لديهم دخل دائم وثابت خارجي) الراغبين في الانتقال للعيش في تركيا.

أخر الكلام:

· تشير الاحصاءات الى أن ما يقراب 10% من الشعب التركي الذي يبلغ تعداده حوالي 85 مليون نسمة ولدوا في عهد اردوغان ولا يعرفوا زعيما غيره, ومعظم هؤلاء اصبحوا مؤهلين للتصويت في الانتخابات المقبلة في عام 2023, ونسبة مهمة من هؤلاء شباباً متحمسين للمشاركة وسيكون لهم كلمة مؤثرة في تلك الانتخابات حيث انهم يشكلون 20 – 25% من عدد المصوتين.

·  قرار الرئيس اردوغان الاستمرار في خفض سعر الفائدة رغم تحذيرات الخبراء والمختصين في أسواق المال والعملات, لم تكن أبعاده فنية فقط, بل كان له أبعاد أخطر بكثير…!!!!

              حمى الله تركيا وحفظ شعبها الطيب. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى