المطلوب من حماس
شبكة الخامسة للأنباء - غزة

كتب: هاني المصري
طبيعيُّ أن يتظاهر من يعانون جريمةَ الإبادة والتهجير والتدمير الشامل، خاصّة أن معظم قطاع غزّة أصبح غير قابلٍ للحياة، بعد الحصار الخانق وغير المسبوق. ومن الطبيعي أن تنال حركة حماس، لا بوصفها حركة مقاومة، بل بوصفها السلطة الحاكمة في قطاع غزّة، حصّتها من الغضب الشعبي، فهي جسّدت حكماً فئوياً قمعياً، ومن دون رقابة ولا مساءلة ولا محاسبة ولا مشاركة شعبية، وعليها أن تفهم دوافع التظاهر ضدّها، وتُلبّي ما يمكن تلبيته من مطالب المتظاهرين الغاضبين. مروحة المطالب المقدّمة إلى “حماس” واسعة، وهي تُقدَّم من شريحة كبيرة من الشعب، وليس من الشعب كلّه أو معظمه، وهذا يعكس التعدّدية الفلسطينية، مصدر قوّة ومناعة واستمرار القضية الفلسطينية، فهناك أيضاً شريحة كبيرة من الشعب تدعم “حماس”، وتبدأ بمطالبة بعض المتظاهرين (انطلقوا من بيت لاهيا) “حماس” بإبداء الاستعداد الجدّي للتخلّي عن حكم قطاع غزّة، لسحب الذرائع والمبرّرات من الاحتلال، الذي تدّعي حكومته أن إنهاء هذا الحال سيؤدّي إلى وقف الإبادة الجماعية، إذا ترافق مع الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وضمان ألا يبقى القطاع مصدراً للتهديد، مع أن الأهداف الحقيقية أكبر بكثير، كما أوضح نتنياهو الأحد الماضي، حين وضع شروطاً تعجيزية لاتفاق وقف النار، منها المضي بتهجير أهل القطاع، أي تصل الشروط الإسرائيلية إلى التهجير والضمّ، وتخلّي “حماس” عن الحكم أصبح مطلوباً من أجل سحب الذرائع من الأطراف الإقليمية والدولية، التي أعلنت عدم استعدادها لتمويل إعادة الإعمار إذا استمرّت “حماس” سلطة الأمر الواقع في قطاع غزّة، لأن هذا يمكن أن يؤدّي إلى عدوان إسرائيلي جديد يدمّر ما أُعيد بناؤه وإعماره.
خطيئة “حماس” المستمرّة أنها أعطت الأولوية لاستمرار سيطرتها الانفرادية على غزّة، ولم تولِ الاهتمام اللازم لوحدة الضفة الغربية وقطاع غزّة
تأسيساً على ما سبق، وعلى الرغم من أن من حقّ “حماس” أن تشارك في الحكم، لأنها فازت في آخر انتخابات (يناير/ كانون الثاني 2006) بالأكثرية، فإنها لم تُمكَّن من الحكم منفردة عندما شكّلت حكومتها، ولم تُمكَّن من الحكم بعد مشاركتها في حكومة الوحدة الوطنية، ما دفعها إلى تنفيذ انقلابٍ سيطرت فيه على الحكم في قطاع غزّة، وهذه جريمة لا تغتفر، رغم شروطها التخفيفية النابعة من أنها كانت قد فازت بالانتخابات، ولم تُمكَّن من الحكم من الاحتلال وأطراف داخلية وخارجية.
كان بمقدور القيادة الفلسطينية (ولا يزال) الموافقة على تشكيل حكومة الوفاق، وربط ذلك بإقرار برنامج فلسطيني واستراتيجية فلسطينية، وتشكيل قيادة فلسطينية موحّدة، تكون مسؤولة عن قرار المقاومة والمفاوضات، وتخضع لها الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة، كما يمكن أيضاً أن تدمج في جيش وطني موحّد. أمّا الإصرار على إلحاق “حماس” بالقيادة إذا أرادت دخول المنظّمة، عبر فرض الشروط الثمانية التي يكرّرها الرئيس، ومن ضمنها استمرار الالتزام بـ”أوسلو” (1993)، الذي قتلته إسرائيل منذ فترة طويلة، ولم تدفنه وتلغيه رسمياً للإبقاء على الالتزامات الفلسطينية فيه. من غير الطبيعي أن يُطلب من “حماس”، والفصائل الفلسطينية كلّها، سحب سلاحها أو مغادرة قيادتها وكوادرها ومقاتليها، لأن هذا لا يمكن أن يحدث إلا بعد إنهاء الاحتلال واستقلال دولة فلسطين، ولأن سحب السلاح سيشجّع قوات الاحتلال على ارتكاب مزيد من المجازر، والشروع في تهجير الفلسطينيين، ولنا في التجارب عبرة منذ تسليم السلاح الفلسطيني للجيوش العربية قبل النكبة، وما حدث بارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا، بعد انسحاب قيادة منظّمة التحرير والمقاتلين فيها من لبنان، وقتل الحكومات الإسرائيلية اتفاق أوسلو، وانتهاءً بعدم الالتزام بمواصلة تطبيق اتفاق الهدنة المطروح أخيراً، وما تشكيل إدارة خاصّة من الحكومة الإسرائيلية لتشجيع التهجير إلا دليل دامغ على أن تسليم السلاح ومغادرة “حماس” القطاع لا تُنهي تنفيذ مخطّط تصفية القضية وتهجير أهلها، ولأن سحب السلاح وطرد المقاومين بمنزلة استسلام، وهو أخطر ما يمكن أن يحدث، لأنه يصادر إمكانية استئناف المقاومة في المستقبل، وهو يختلف عن الهزيمة التي يمكن أن تلحق بالمقاومة، ولكن رفض التسليم بالهزيمة ضروري ومهم جدّاً، لأنه يؤسّس لانطلاقة فلسطينية جديدة تستوعب دروس الثورات والانتفاضات السابقة وأخطائهما، وتسير في طريق الانتصار.
لو كان الاستسلام يؤدّي إلى وقف الإبادة والتهجير، وإلى إعادة الإعمار، فأهلاً وسهلاً به، فليس هناك ما هو أغلى من الإنسان
ومع ذلك، لو كان الاستسلام يؤدّي فعلاً إلى وقف الإبادة والتهجير والضمّ، وإلى الانسحاب الإسرائيلي وفكّ الحصار والشروع في إعادة الإعمار، فأهلاً وسهلاً به، فليس هناك ما هو أغلى من الإنسان، ولكن لا يستطيع أحدٌ أن يضمن ذلك، جرّاء وجود حكومة في إسرائيل تؤمن بقدرتها على إقامة “إسرائيل الكبرى”، وبحسم الصراع مع الفلسطينيين، من خلال تصفية القضية الفلسطينية، وإيجاد شرق أوسط جديد تحت الهيمنة الإسرائيلية، ويشجّعها وجود إدارة أميركية لا تقلّ عنها تطرّفاً، وهامش الخلاف بينهما ينحصر في اختلاف الأولويات، مع وحدة الأهداف الكبرى.
تمرّ فلسطين بمنعطف تاريخي، يجري فيه إما استكمال شطب القضية الفلسطينية ومختلف مكوّناتها، بما فيها منظّمة التحرير، وتجاوز وحدانية تمثيلها للفلسطينيين والسلطة المُجسِّدة للهُويَّة ووحدة الضفة والقطاع، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه بعد النكبة، إذ كانت قضية لاجئين، قضية إنسانية شعبها مشرذم من دون هُويَّة وطنية، ولا وحدة ولا إطار جامع ولا برنامج مشترك ولا قيادة واحدة. أو أن في هذا المنعطف هناك بداية مقاربة جديدة تركّز في أولوية التوافق والوحدة في مواجهة المخاطر المشتركة، وعلى جمع أوراق القوة، والرهان على الذات أولاً، والقيام بما هو مطلوب فلسطينياً، ثمّ العمل من أجل أوسع دعم وتضامن عربي وإقليمي ودولي، بما يمكّن من توفير عوامل الصمود والبقاء للقضية وللشعب في أرض وطنه، بوصف الصمود أعلى أشكال المقاومة في هذه المرحلة، فضلاً عن إحباط مخطّط التصفية والإبادة والضمّ والتهجير في طريق إنجاز حقوق الشعب الفلسطيني وأهدافه الوطنية.