جرحٌ معلق، معاناة الإجلاء الطبي من غزة
شبكة الخامسة للأنباء - غزة

بقلم: وائل ابراهيم بعلوشة
قطاع غزة المحاصر، حيث الموت يخيّم فوق البيوت وتحت الركام، لا ينتهي الجرح عند لحظة الإصابة. فبعد أن يتوقف النزيف في مستشفى يفتقر إلى الدواء والكهرباء، تبدأ رحلة أخرى لا تقل قسوة، رحلة البحث عن نافذة صغيرة للنجاة عبر الإجلاء الطبي.
آلاف الجرحى والمرضى يقفون اليوم أمام أبواب مغلقة، ينتظرون إذن سفر إلى مستشفيات خارج غزة، بينما تتآكل فرصهم في الحياة مع كل يوم تأخير.
مأساة مضاعفة
الجرحى الذين نجوا من القصف، وأولئك المرضى الذين يعيشون بأجساد منهكة بفعل السرطان وأمراض القلب والكلى، يدركون أن فرص العلاج داخل غزة تكاد تكون معدومة. المستشفيات هناك تحولت إلى ساحات طوارئ ضخمة، تعالج ما يفوق طاقتها بأضعاف حيث غرف العمليات تعمل في ظروف بدائية، وأجهزة التنفس تتوقف مع انقطاع الكهرباء، والأدوية الأساسية تختفي من الرفوف.
هذا المشهد القاتم، يصبح الإجلاء الطبي هو الأمل الوحيد. غير أن هذا الأمل غالبًا ما يذوب أمام تعقيدات الواقع، قوائم انتظار طويلة، إجراءات بيروقراطية معقدة، غياب المعلومات الواضحة، وشعور عام بعدم العدالة في تحديد من يُسمح له بالسفر ومن يُترك ليواجه مصيره منفرداً.
الاحتلال.. العائق الأكبر
لا يمكن الحديث عن الإجلاء الطبي دون التطرق إلى التحكم الإسرائيلي الكامل في حركة الجرحى والمرضى. فمنذ سنوات، يفرض الاحتلال شروطًا صارمة على سفر الجرحى والمرضى عبر معبر بيت حانون (إيرز). هذه الشروط تضاعفت خلال حرب الإبادة الجماعية، لتتحول إلى أداة عقاب جماعي، عشرات الطلبات تُرفض يوميًا دون مبرر واضح وآلاف الحالات تنتظر لأشهر طويلة، بينما تسابق الأمراض الزمن. مرضى السرطان يُتركون لمصيرهم لأن العلاج الإشعاعي والكيماوي غير متوفر داخل غزة، والاحتلال يمنعهم من الخروج، وأطفال بأجساد هشة لا يُسمح لهم بمغادرة القطاع إلا بعد «مراجعة أمنية»، وكأن براءتهم تهديد.
الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بالتحكم بالمعابر، بل يفرض على المنظمات الدولية قيودًا على تنسيق رحلات الإجلاء، ويتدخل في وجهة المرضى، وأحيانًا في طبيعة العلاج الذي يسمح به. هكذا تتحول حياة إنسان إلى ملف أمني على طاولة المخابرات.
بيروقراطية مرهقة وغياب الشفافية
لكن الاحتلال ليس التحدي الوحيد. فالكثير من العائلات في غزة تشتكي من غياب الوضوح في آليات إدارة الإجلاء الطبي. من يُدرج على قوائم السفر؟ من يقرر الأولويات؟ ولماذا يحصل بعض المرضى على الموافقة بسرعة بينما يظل آخرون ينتظرون دون إجابة؟
قصص كثيرة تتردد في الشارع الغزّي عن شبهات محاباة وواسطة في اختيار الأسماء، أو عن أسر فقدت أبناءها لأن طلباتهم لم تُبتّ في الوقت المناسب. بعض العائلات تقول بمرارة: «ابن فلان سافر، بينما طفلنا مات على سرير المستشفى بانتظار تصريح لم يصل».
هذه الشكاوى تضع علامات استفهام حول نزاهة وشفافية الجهات المشرفة على الملف، سواء كانت محلية أو دولية. ويزداد الإحباط حين لا يجد المواطن أي قناة واضحة لتقديم اعتراض أو طلب مراجعة.
منظمة الصحة العالمية، الدور والمسؤولية
منظمة الصحة العالمية (WHO) تتحمل مسؤولية كبرى في هذا السياق، كونها الجهة الدولية الرئيسية المنوط بها الإشراف على عمليات الإجلاء والتنسيق مع السلطات المختلفة. غير أن الكثير من المواطنين والناشطين يرون أن أداء المنظمة لم يرتقِ إلى مستوى الكارثة حيث رصد المراقبون ضعف التواصل مع الجمهور، حيث لا توجد آلية واضحة لإعلام الناس بمصير طلباتهم أو أسباب رفضها، وغياب آلية للمساءلة، فمن يراقب القرارات التي تُتخذ؟ ومن يحاسب إن كان هناك خلل أو انحياز، ومحدودية الضغط على الاحتلال فالمنظمة تكتفي غالبًا بدور الوسيط الصامت، دون أن تستخدم ثقلها لفضح العراقيل الإسرائيلية أو فرض التزامات إنسانية على الاحتلال.
في ظل هذا الغموض، يشعر المرضى وأهاليهم أن حياتهم مرهونة بقرارات مجهولة لا يعرفون من يتخذها ولا على أي أساس.
وجعٌ في كل بيت
القصص الإنسانية كثيرة، وكل واحدة منها تختصر مأساة أمة بأكملها:
- طفلة في التاسعة مصابة بسرطان الدم، تنتظر منذ أسابيع تصريحًا للسفر إلى مصر. تدهورت حالتها وفقدت القدرة على المشي، بينما والدها يلهث بين مكاتب التنسيق بلا جدوى.
- شاب في العشرينات فقد ساقه في قصف على مخيم جباليا، يحتاج إلى زراعة عظام معدنية، لكن كل ما يُعرض عليه في غزة هو مسكنات. يقول: «أريد أن أعيش مثل أي إنسان… أريد أن أخرج لأكمل علاجي، لا أن أُدفن هنا حيًا».
- امرأة خمسينية تعاني من فشل كلوي، تنتظر منذ شهرين إدراجها على قوائم السفر لجلسات غسيل كلوي متطورة. صارت حياتها مرتبطة بعدد قليل من الجلسات غير الكافية في مستشفى مكتظ، وكل يوم إضافي يهددها بالموت.
هذه الشهادات تعكس أن الإجلاء الطبي ليس رفاهية، بل مسألة حياة أو موت، وأن كل تأخير، كل ورقة تنتظر توقيعًا، كل مراجعة أمنية، تعني ببساطة فقدان حياة.
ما المطلوب؟
أمام هذا الواقع المؤلم، ثمة حاجة ملحة لإجراءات عملية تضمن الشفافية والنزاهة والعدالة في إدارة ملف الإجلاء الطبي. وفي هذا الإطار، مطلوب من:
- منظمة الصحة العالمية مطالبة بوضع آليات واضحة وعلنية لإدارة الملف، تشمل:
- نشر معايير الاختيار والأولويات بشكل معلن ومتاح للجمهور.
- إنشاء قنوات للشكاوى والاستئناف تتيح للمواطنين الطعن في القرارات أو طلب مراجعة حالاتهم.
- إصدار تقارير دورية تكشف بالأرقام عدد الطلبات المقدمة، المقبولة، المرفوضة، وأسباب الرفض.
- المجتمع الدولي يجب أن يمارس ضغطًا حقيقيًا على الاحتلال لرفع قيوده التعسفية، باعتبارها انتهاكًا صارخًا للحق في الصحة وخرقًا للقانون الإنساني الدولي.
- السلطات المحلية والجهات الفلسطينية المشرفة مطالبة بضمان العدالة والابتعاد عن أي ممارسات تنطوي على محاباة أو محسوبية، مع إشراك مؤسسات المجتمع المدني في الرقابة.
- إشراك مؤسسات متخصصة، في مراقبة الإجراءات وتوثيق الانتهاكات، بما يعزز الثقة العامة.
ختاماً
الإجلاء الطبي من غزة اليوم ليس مجرد عملية لوجستية، بل هو معركة بقاء يخوضها آلاف الجرحى والمرضى ضد الحصار والبيروقراطية وانعدام الشفافية. هؤلاء لا يطلبون المستحيل، إنما حقهم الإنساني البسيط في العلاج والحياة.
الكرة اليوم في ملعب منظمة الصحة العالمية والجهات الدولية: إما أن تثبت أنها تقف في صف الإنسانية وتعمل بشفافية وعدالة، أو تظل شريكة في الصمت الذي يحاصر المرضى كما تحاصرهم الجدران.
ولعل السؤال الذي يردده الغزيون في كل زاوية: إلى متى يظل الحق في العلاج مرهونًا بقرار سياسي، ومصير المريض رهينة لتوقيع مجهول؟