جمال زحالقة: الدولة الصهيونية في خطى متسارعة نحو المجهول
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
أقر الكنيست الإسرائيلي «قانون إلغاء حجّة المعقولية»، الذي يقلّص صلاحيات المحكمة العليا في إلغاء قرارات الحكومة ومؤسسات الدولة، ودعم القانون أعضاء الائتلاف الحكومي الـ64، مقابل صفر ضدّة، بعد أن تغيّبت المعارضة عن التصويت احتجاجا على مضي الحكومة في تمرير خطّة «تغيير الجهاز القضائي»، التي يعد القانون الجديد خطوتها الأولى. وتصاعدت المظاهرات الصاخبة قبل وبعد التصويت وشارك فيها مئات الآلاف من الإسرائيليين، وتواصلت وزادت كذلك مظاهر الاحتجاج لدى أوساط واسعة في قوّات الاحتياط العسكرية، وفي صفوف النخب الأمنية والاقتصادية والأكاديمية والثقافية والسياسية. وفي المجمل تعمّق الانقسام العميق أصلا، واحتدت ملامح الأزمة الداخلية في كل المستويات، وتفاقمت المخاوف على المصير، وزادت كوابيس الخراب، ودخلت إسرائيل مأزقا تاريخيا، لا أحد يعرف إلى أين سيفضي؟ وهل ستخرج منه، وكيف؟ إنّه المجهول الذي يقضّ مضاجعهم، أكثر من المعروف مهما كان خطيرا في نظرهم.
متظاهرو اليسار الدموي
ما يثير المظاهرات المشحونة في إسرائيل هو خشية الجمهور الذي ينتمي إلى التيار التاريخي المركزي في الصهيونية وفي الدولة الصهيونية، من فقدان مكانته وامتيازاته وتأثيره، في ظل انقضاض اليمين المتطرّف على الدولة العميقة، وبالأخص على الجهاز القضائي. ولا يطالب المتظاهرون بديمقراطية كونية خالصة، بل بدولة يهودية ديمقراطية، وهي ذاتها الدولة الصهيونية، التي قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني، وما زالت ترتكب بحقّه يوميا أبشع الجرائم، وإذ لم يعد لليسار الصهيوني وجود حزبي يُذكر، إلّا أن مبادئه وسياساته تهيمن على تفكير وأخلاقيات المتظاهرين، لكنّه في حقيقته «يسار دموي»، فالطيّارون «اليساريون المتحضّرون»، الذين ينادون بالديمقراطية، هم أنفسهم الذين يقصفون غزّة بطائراتهم الحديثة والمتطوّرة، وقتلوا في عدوان 2014، مثلا، أكثر من 2200 شخص، بينهم أكثر من 500 طفل. وكان تبرير هذه الجريمة الفظيعة هو الدفاع عن الدولة اليهودية، واختفت فجأةً الديمقراطية كما يفعل السحرة. وفي الواقع، فإن عدد من قتلهم «رافضو الخدمة الديمقراطيون» يفوق بعشرات المرّات ضحايا اليمين المتطرّف الإسرائيلي، الذي يجعجع أكثر ممّا يقتل، ببساطة لأنّه لا يملك القدرات القتالية لوحدات النخبة، المنتمية بغالبيتها الساحقة لأوساط اليسار والوسط «المتحضّرة». وما يريده المتظاهرون فعليا وعمليا هو إبقاء الوضع القائم لنظام الدولة الصهيونية، بحيث يبقى الجيش متماسكا وجاهزا لخوض العدوان والحرب، وتواصل المحكمة العليا كونها درعا واقيا لمجرمي الحرب، في وجه القضاء الدولي وحارسا ضد انتشار الفساد وسلامة الإدارة والحكم، ويستمر الاحتلال والتهويد والحصار والاستيطان والقمع والفتك كما كان حتى الآن، مع المحافظة على هامش من النقاش السياسي النظري حول «الصراع» وحول مصير القضية الفلسطينية. لم يطالب المتظاهرون بتوسيع مفهوم حقوق الإنسان ليشمل الفلسطينيين، ولم ينادوا بزوال الاحتلال وتفكيك الاستيطان ووقف الحصار وإلغاء سياسات التمييز العنصري. المتظاهرون هم عمليا عصب المشروع الاستيطاني العدواني والعمود الفقري للدولة الصهيونية، كما عهدناها، وقد عهدناها كنظام استعمار استيطاني عنصري يحمل صفات وميّزات الأبرتهايد.
لا يطالب المتظاهرون بالتغيير، بل بمنع تغييرٍ، هو بنظرهم إلى الأسوأ. هم يرون أنفسهم حماة الدولة والكيان، ويتهمون اليمين المتطرّف بالعمل على تغيير الدولة التي يحمون ويبنون ويطوّرون، وتحويلها إلى دولة ديكتاتورية ثيوقراطية شمولية. ويشرح ضباط الاحتياط، رافضو الخدمة، بأن هناك معاهدة غير مكتوبة بينهم وبين السلطة، مفادها أنّهم يخاطرون بحياتهم للدفاع عن الدولة، وهي بدورها تحافظ على قيمها التاريخية كدولة «يهودية وديمقراطية»، وعليه فإن الدولة هي التي خرقت المعاهدة وليس هم، وعليه يحق لهم عدم المثول للتدريبات وللخدمة في قوّات الاحتياط. ولا يخطر ببالهم، وقد أُصيبوا بالعمى الصهيوني، أن هذا الكيان العجيب المسمّى «يهودية وديمقراطية»، مصاب بانفصام شخصية عميق: فهي يهودية، والأصح صهيونية، في جوهرها، وفي سعيها لاقتلاع الفلسطيني وتدمير كيانه، وهي ديمقراطية تبعا لمتطلبات ضبط العلاقات البينية بين اليهود ولاحتياجات التسويق الخارجي.
تطوّرات لافتة
في الأشهر الأخيرة، تعيش الدولة والمجتمع في إسرائيل دوّامة ويواجهان سلسلة من الأحداث العاصفة، وصفها عناوين الصحف ومتحدّثو الأوساط الأمنية والسياسية والأكاديمية بأنّها هزّات أرضية، حتى لو حدث بعضها في الجو وفي سلاح الجو تحديدا. ولو أخذنا بهذا التشبيه، فإن الهزّات الأرضية زادت قوّة وعنفا وبدأت تُحدث تصدّعات فعلية في بنية النظام والمجتمع في الدولة الصهيونية. أكثر ما يقلق النخب الإسرائيلية هو مشروع «تغيير القضاء»، الذي تعتبره انقلابا على النظام القائم، وخطرا داهما على المشروع الصهيوني بمجمله وبتجلياته كافة، حتى إن بعضها أعلن بعد إقرار قانون «إلغاء حجة المعقولية»، الاثنين الماضي، عن «موت إسرائيل التي نعرفها» وعن أن الدولة أصبحت غير ديمقراطية (وكأنّها كانت..) وتعالت أصوات تنادي إلى العصيان المدني والإضرابات المتواصلة وعدم دفع الضرائب ورفض الخدمة في الاحتياط، ومن الواضح أن اتجاه المعارضة الفاعلة هو التصعيد. وإذا نظرنا إلى مشروع «تغيير القضاء» ببنوده كافة، سنجد أن قانون «إلغاء المعقولية»، ليس الضربة الأكبر للمحاكم الإسرائيلية، ولكنّه يجسّد روح الخطة الحكومية الجديدة، وإذ ينص القانون على أن المحكمة لا تملك الحق بشطب قرارات وزارية لأنّها «غير معقولة»، تستطيع الحكومة إقالة المستشارة القضائية للحكومة وإجراء تغييرات في تركيبة وفي قواعد عمل النيابة العامة، تفضي الى إلغاء محاكمة نتنياهو. كما يستطيع نتنياهو تعيين زعيم شاس أرييه درعي، وزيرا، على الرغم من إدانته بتهمة الفساد، وكذلك يمكن للحكومة أن تنفلت في رصد مبالغ ضخمة لصالح مشاريع الاستيطان والتهويد والتسهيلات الاقتصادية للمستوطنين، أكبر بكثير، مما هو مخصص حاليا للإسرائيليين داخل الخط الأخضر، ولا تستطيع المحكمة التدخل لترشيد السياسات الحكومية. وتنص خطة «تغيير القضاء» على أن الخطوة المقبلة ستكون هيمنة حكومية على تعيين القضاة، بما يسمح باختيار قضاة يدعمون السياسات الحكومية بالكامل، وهكذا يستطيع اليمين المتطرّف تفكيك الدولة العميقة وإعادة تركيبها كما يروق له ولمشاريعه، التي على رأسها إغراق الضفة والقدس المحتلة بملايين المستوطنين ومصادرة مساحات واسعة من الأراضي، وتغيير الطابع الديمغرافي والجغرافي، بلا أي رقابة قضائية مهما كانت خجولة وهامشية.
في مقابل نشوة الانتصار والاحتفال بتمرير القانون الجديد، وانفتاح الشهية للمزيد من القوانين المماثلة، يتعرّض الائتلاف الحكومي الذي يقوده نتنياهو إلى سلسلة من التحديات الصعبة والضربات الموجعة منها:
أولا: ضربات متتالية على المستوى الأمني، حيث أعلن أكثر من 10 آلاف مجنّد في الاحتياط عن وقف مثولهم في التدريبات ورفض الخدمة في الاحتياط. والمشاكل الأعوص بالنسبة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية هي، وحسب الترتيب، إصابة سلاح الجو بشلل نصفي نتيجة لخروج حوالي 1500 مجند ومجنّدة من الخدمة الميدانية، ويليه في ذلك رفض الخدمة من عدد مماثل من العاملين في أجهزة المخابرات وفي سلاح السايبر، وبعد ذلك يأتي دور بقية الرافضين للخدمة في الوحدات الخاصة وفرق الكوماندو وسلاحي البر والبحرية.
ثانيا: الاقتصاد الإسرائيلي على أبواب أزمة كبرى في ظل تراجع الاستثمار وهجرة رأس المال ونقل الشركات فقدان الثقة به في الأسواق العالمية.
ثالثا: هناك اهتزاز في العلاقة الإسرائيلية الأمريكية، ومع أنّها بقيت حتى الآن على السطح السياسي، إلّا أن هناك خشية لدى النخب الإسرائيلية، من أن تتغلغل إلى بعض المفاصل في أعماق التحالف الاستراتيجي المعهود.
رابعا: في استطلاعات الرأي كافة، الائتلاف الحكومي يفقد حوالي 20% من قوّته الحالية، ولو جرت الانتخابات اليوم لخسرها اليمين والليكود، ولفاز فيها ائتلاف الوسط وغانتس في المقدمة. وتدل الاستطلاعات على معطيات غير مسبوقة منها أن ثلث الإسرائيليين يفكّرون في الهجرة، وأكثر من نصفهم يخشون تدهور الأوضاع الأمنية ويخافون من اندلاع حرب أهلية ومن الركود الاقتصادي.
لا يستطيع أي رئيس وزراء إسرائيلي أن يتجاهل ما يحصل من أزمة في الجيش، وتراجع في الاقتصاد، وتوتر مع واشنطن وتحوّلات في الحقل السياسي، وعليه فإن نتنياهو، على مفترق طرق: فإمّا المضي في مشروع «الانقلاب على جهاز القضاء» ودفع الثمن حاليا، مع الأمل في استرجاعه لاحقا، أو وقف المشروع والدخول في مأزق إئتلافي مع حلفائه وبعض قيادات حزبه، قد يصل الى حد إسقاط الحكومة. بين هذا وذاك هناك سيناريوهات كثيرة من الصعب التنبّؤ بها، ولكن المؤكّد أن الأزمة سوف تتعمّق وأن الدولة الصهيونية تسير بخطى متسارعة نحو المجهول. كل هذا لا يعني أن آلة الحرب الإسرائيلية معطّلة، بل قد يكون اللجوء إلى استعمالها في عدوان جديد هو المخرج.
كاتب وباحث فلسطيني