أكرم عطا الله: عن صراع الإرادات داخل إسرائيل
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
لم يأتِ ثنائي قائمة “الصهيونية الدينية” بكل هذا الاندفاع والحماس لاستكمال إدارة الصراع التاريخي بين الفلسطينيين وإسرائيل كما فعلت الحكومات السابقة منذ توقيع اتفاق أوسلو بعيداً عن الحل، ولا لتقليصه حسب الاختراع السياسي لميخا غولدمان بإيجاد عوامل مساعدة وبدائل تساهم في تخفيف حدته، وترك الزمن يفعل فعله لدى دولة تملك ما يكفي من الإمكانيات، وتديرها بكفاءة مقابل شعب بقوى وأحزاب وإدارة متدنية الكفاءة، حسب نظرية العالم البيولوجي الفرنسي لامارك عن البقاء للأصلح.
بل جاء هذا الثنائي بكل الوضوح لحسم الصراع الذي راوح خلال العقود الثلاثة الأخيرة في معادلة رغم خسارة الفلسطينيين الفادحة خلالها، إلا أنهم يعتبرونها مساساً بـ”حق الشعب اليهودي في أرضه”، والمقصود الضفة الغربية. وقد قال بتسلئيل سموتريتش: إنه ينوي إنهاء السلطة الفلسطينية فيها كرمز للوجود الفلسطيني على هذه الأرض. وبالنظر لطبيعة المفاوضات الائتلافية والاتفاقيات التي تمخضت عنها، استولى هذا الثنائي على كل الصلاحيات اللازمة لتنفيذ الحسم.
فقد تسمّر بن غفير لضم حرس الحدود للأجهزة التي تخضع لصلاحياته وهو الجهاز الأكثر سيطرة في القدس، وقاتل سموتريتش لمصادرة صلاحيات الإدارة المدنية وصلاحيات سيطرة الجيش على الضفة الغربية. ولا يحتاج هذا للكثير من التفسير، فمن يعرف السيرة الشخصية والحزبية والعقائدية لهذا الثنائي وسلوكه على امتداد السنوات الماضية، يدرك أن الضفة أمام مرحلة ستختلف عن المرحلة السابقة، ولم تكن الحرب على الصلاحيات لوزير مالية وهي وزارة سيادية كبيرة ليكون مسؤولاً عن الضفة من فراغ.
لكن على الجانب الآخر، هناك صراع من نوع مختلف يدور في إسرائيل، ليس على الصلاحيات فقط، بل لاستخدام تلك الصلاحيات للهيمنة على الدولة التي نشأت فيها حالة فريدة من الازدواجية لحظة تأسيسها، وتمثلت منذ أربعينيات القرن في التعارض بين بن غوريون الذي أراد إنشاء دولة علمانية، وبين حزب “أغودات” الذي أراد إنشاء دولة دينية “تحترم قدسية السبت ومطابخ الحلال”، كما جاء في رسالة بن غوريون التطمينية، لكن تلك كانت تؤسس لتعارض يبدو أنه تجلى في الانتخابات الأخيرة، تعكس حدته تظاهرات السبت والجدال العام في الدولة.
هو صراع لم يعد خفياً، أو يمكن تسكينه برشاوى صغيرة كما كانت تفعل الحكومات مع حزب “شاس” الديني، بل إن قوة الصهيونية الدينية التي تضخمت أخرجته للعلن ووضعته على الطاولة، ما جعل الكثير من الإسرائيليين، سياسيين وكتاب وأكاديميين وجنرالات سابقين، يشعرون بقلق على الدولة وبنيتها التي باتت مهددة. وبات السؤال الذي ينتظر إجابة لدى كل خصوم إسرائيل: أين سيصل صراع الإرادات؟
إسرائيل دولة مؤسسات، ولكن الاندفاع من قبل أقطاب الحكومة بات يهدد تلك المؤسسات وأبرزها القانون والقضاء، وبات واضحاً أن بعضها بدأ يترنح أمام سطوة القوى اليمينية، وبما يحقق رغبات رئيس الحكومة الملاحق قضائياً، خصوصاً أن مركز القوة في الحكومة يعتبره قضاءً علمانياً فاسداً يجب إنهاؤه، وهذا أول تمزيق لأبرز مركبات الدولة وتلك بشرى لخصومها.
في البحث عن مسار مستقبل الأزمة الإسرائيلية ما يستدعي معرفة سطوة الجيش، ومدى قبوله بتغيير بنية الدولة، على الرغم من أن إسرائيل تعيّن لأول مرة في تاريخها رئيس أركان متديناً هو هرتسي هليفي الذي سيتسلم منصبه غداً، لكن موقف المنظومة الأمنية والعسكرية يبدو شديد الأهمية بتحديد المسار القادم في إسرائيل، فقد ثبت بالتاريخ أن إسرائيل دولة الجيش، وأن لهذا الجيش دولة، وأن الدولة العميقة تدار من الطابق الرابع عشر في الكرياه بتل أبيب. بل وهكذا وضع بن غوريون كل صلاحيات الدولة تحت مسؤوليته حتى وإن بدا أن هناك حكومة مدنية، فمراكز الدراسات وصناعة القرار ومراكز البحوث في الجامعات جميعها تتبع للجيش.
لقد أرسل لي صديق بعض وثائق اجتماعات هيئة الأركان الإسرائيلية بعد حرب 67، والتي عقدت بطلب من رئيس الأركان إسحق رابين، ودون علم ومعرفة رئيس الوزراء ليفي أشكول. وكم كان الأمر مثيراً للدهشة بملاحظة أن السياسات التي اتبعتها كل حكومات إسرائيل، على امتداد أكثر من نصف قرن في المناطق التي استولت عليها في تلك الحرب، لم تخرج قيد أنملة “باستثناء العريش” عن تلك الدردشات غير الرسمية التي تقررت في تلك الإجماعات وضمنتها الوثائق.
رئاسة الأركان لا يضع سياستها رئيس الأركان وحده، بل المؤسسة العسكرية التي تضم كل الأركان، وتلك قوة مهيمنة على القرار وشكل الدولة، وهي مؤسسة صهرت المجتمع الإسرائيلي الذي هاجر بثقافات أصلية متعددة، فهل سيسلّم بالتغيرات في بنية الدولة التي صممها وهندسها كما يريد؟ من غير المتوقع ذلك؛ فهي دولته الخاصة، فيما أن الطرف المقابل يستعجل الزمن لتغيير بنية الدولة ولإضعاف الدولة العميقة. وأيضاً هذا الطرف لن يسلم ببساطة مصحوباً بنشوة النصر.
كل خصوم إسرائيل يتمنون انتصار بن غفير وسموتريتش على الجيش. ولكن لو بقيت الأزمة تراوح مكانها نحن أمام لحظة إسرائيلية تدخل مساراً من التعارض بين قوتين، ما يعني أن إسرائيل تدخل مساراً جديداً حملت به منذ سبعة عقود ونصف العقد، وجاءت لحظة ولادته.
كيف ستكون ملامحه؟ فلنراقب..!