مقالات الخامسة

إلا التضحية بالشعب وبمدينة غزة …!

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

الكاتب: أكرم عطا الله

بعد أن اتخذ كابينت الحرب في إسرائيل فجر الجمعة قراره باستكمال احتلال ما تبقى من قطاع غزة «مدينة غزة والمحافظة الوسطى» سألني أحد الأصدقاء «ما هي اللاءات الثلاث التي يجب ألا يتجاوزها المفاوض الفلسطيني أو بالأحرى الخطوط الحمر؟» قلت: الأول تدمير مدينة غزة الأثرية التاريخية كواحدة من أجمل وأقدم المدن والتي تشكلت فيها الهوية الوطنية، وألا تنسحق وتتحول إلى مجرد أطلال مثل رفح وبيت حانون في ظل العجز الشديد عن الوقوف في وجه من سيدمرها.
أما الثاني فهو تهجير سكان غزة وعدم تحويلهم إلى نازحين وفقاً للقرار الإسرائيلي، كجزء من مشروع أكبر بإفراغ قطاع غزة من السكان ودفعهم جنوباً نحو رفح، تمهيداً للخروج النهائي نحو دول تتفاوض معها إسرائيل، وتقول إنها قبلت أعداداً كبيرة من فلسطينيي قطاع غزة، أما الثالث فهو وقف الموت اليومي بالعشرات كاستمرار لإبادة بات واضحاً أن لا قوة قادرة على وقفها.
اللحظة شديدة الخطورة والخيارات آخذة بالنفاد، ولا يحتمل الأمر ترف التفاوض أكثر. وهناك من يضع لنفسه أولوياتٍ حمراً مختلفة مثل السلاح أو بقاء حركة حماس، وتلك ليست أكثر من أدوات في سياق المشروع التحرري الفلسطيني وفي سياق الوصول للهدف بإزالة الاحتلال. لكن حين يتحول السلاح سبباً للاستيلاء على الأرض، أو تصبح حركة حماس سبباً وذريعة لطرد الشعب من أرضه يصبح الأمر بحاجة لحسابات أخرى.
السلاح ليس أهم من الشعب، وحركة حماس ليست أهم من الأرض، وإذا اعتقدنا بعكس ذلك، فإننا نقوم بأكبر عملية تشويه لتاريخنا وقلب لأولوياتنا، فالجريمة أن تصبح الوسيلة أهم من الهدف، لأن في ذلك انهياراً للمعايير وإنذاراً بالفناء، وهذا ما حصل عندما انفلت السلاح أبعد مما يجب، حين ظن حاملوه أنه قدس الأقداس وفوق النقد واللجم والملاحظة. أما حركة حماس كوسيلة فقد غامرت بكل الأصول الإستراتيجية للشعب الفلسطيني، فلا ينبغي أن تكون مقارنة بينها وبين بقاء الشعب، وهي من تسبب بمغامرة غير محسوبة بتهديد هذا البقاء.
وإذا كانت الخيارات تضيق أكثر بين بقاء حركة حماس وبقاء الشعب تصبح التضحية بالشعب من أجل بقاء حركة حماس ضرباً من الجنون، وهذا ما لم يفعله أي شعب لكنه يحصل منذ بداية الحرب، عندما لم تقرأ حركة حماس طبيعة ما حدث ومآلات ما سيحدث بعد السابع من أكتوبر، بل ومارست قدراً من التجاهل والنظر بسطحية لأحداث تاريخية بهذه الجسامة، معتمدةً على مصادفات يمكن أن تلعب لصالحها أمام حقائق وخطط لا تحتمل المصادفات، وأمام قوة كاسحة مدعومة من أعتى القوى في العالم، ظلت الحركة تعتقد بسذاجة أن هذه حرب ككل الحروب السابقة، وسينتهي الأمر كما كل النهايات السابقة، وتعود إلى ما قبل السادس من أكتوبر دون أن تدرك أن وجه التاريخ يتغير.. ولكن هذه المرة في غير صالحها بل باتجاه شطبها.
الصراحة تقتضي أن نكتب لحماس الحقيقة لتقرر بلا تضليل أو خداع أو دغدغة للعواطف أو شعارات، بأن ما قامت به في السابع من أكتوبر صورته إسرائيل بالهولوكوست، وتمكنت من إقناع العالم بذلك، ومع الهاجس الذي يسكن العقل اليهودي الذي يعتقد أنه طريد التاريخ، ما يعني أن إسرائيل باسم حماس ستسحق غزة وتحولها كما قال عضو الكنيست منصور عباس إلى ركام، ولن تقبل ببقاء حماس ولا سلاحها لو امتدت الحرب لسنوات، وحتى لو أدى اقتلاع حماس إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني في كل قطاع غزة.
لم تدرك الحركة ذلك، ولم تقدّر ردة الفعل الإسرائيلية، ولم تقرأ السياق العام للحرب ومآلاتها، وبقيت تفكر بذاتها واستمرارها تحت لافتة «نحن اليوم التالي»، وتمارس الترهيب ضد من قرأ اللوحة مبكراً مطالباً بالبحث في اليوم التالي، قبل أن تحتكر إسرائيل هندسته وقد كان، وها هي إسرائيل باسم الأسرى وباسم حماس وباسم السلاح تخطط لتدمير مدينة غزة وترحيل سكان محافظتي غزة والشمال الذين يتكدسون في مدينة غزة.
لا أظن ان حركة حماس لم تدرك بعد مآلات الحرب وما هو المطلوب منها، ومن الجهل ألا تدرك أن الإسرائيلي سيستمر بملاحقتها في الداخل والخارج بعد أن ينتهي من موضوع الأسرى، وهذا ما سقط في اعترافات الرئيس الأميركي ترامب حين قال إن حماس تعرف ما سيحدث لها بعد إطلاق سراح الأسرى، لذا تقتضي العقلانية السياسية ضمان صفقة تقبل فيها حماس خروجها من المشهد، بضمان وقف الحرب ووقف تدمير ما تبقّى من غزة، ووقف التهجير وضمان عدم ملاحقتها، أما السلاح فهو أسهل القضايا وسيكون له مقال خاص.
حين يبقى الشعب فإنه يعيد إنتاج كفاحه ضد الاحتلال بأدواته وبأحزابه الأكثر قدرةً على ابتداع الوسائل التي تلائم مرحلته، لكن إذا تم ترحيل الشعب فلن يبقى شيء من هذا، فالسلاح هذه المرة ذهب أبعد مما يجب، ما يستوجب مراجعته، وحماس هذه المرة غامرت أبعد مما يجب، وفي كليهما ما يستدعي الحساب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى