مقالات الخامسة

الإدانة “بأشدّ العبارات” ؟!

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

كتب: عبد المجيد سويلم:

دخل مفهوم الإدانة “بأشدّ العبارات” إلى القاموس العربي، وكذلك الإسلامي، وأحياناً الدولي باعتباره [نقلة نوعية جديدة] من مراحل “التصدّي” لإسرائيل، وخصوصاً في مجال انتهاكاتها الكبيرة والنوعية الخطيرة في القدس، وفي عموم الأراضي الفلسطينية.
يقصد النظام العربي، والإسلامي، والدولي في بعض الحالات من الإدانة “بأشدّ العبارات” بأنّ الإدانة والشجب والتنديد لم تعد كافية، ولم تعد تفي بالغرض، وأنّ الأمر قد وصل إلى حدود الخطر الكبير ما بات يستدعي الانتقال إلى مرحلة “نوعية جديدة” من مجابهة هذه الأخطار!
هذا الانتقال الجديد، إلى المرحلة الجديدة لا بدّ أنه يذكّر كل الشعب الفلسطيني كم هو بائس واقع هذا الشعب إذا ما اعتقد أنّ محيطه العربي الرسمي، ومحيطه الإقليمي، الرسمي، أيضاً، ومحيطه الدولي، الرسمي حصراً وتحديداً، يمكن أن يقدّم له سوى الهمّة الإعلامية المعهودة.
وهذا الانتقال يذكّر الشعب الفلسطيني بأنّ مدينة القدس، والمسجد الأقصى الشريف، وكل رموزه الدينية الإسلامية والمسيحية كم هو بائس واقعه السياسي الخاص الذي وصل به الحال إلى الانتقال من مرحلة الإدانة والشجب إلى مرحلة نوعية جديدة من “التحذير”، والحديث صراحة وبكلّ “شجاعة وإقدام” عن مغبّة اللعب بالنار، دون “تخطّي” كل الخطوط الحمراءّ، كما جاء في بيانات “الرسمية” الفلسطينية، وبيانات الفصائل، أيضاً.
وقد بلغت المرحلة الجديدة ذروة التصعيد غير المسبوق بأن عقد اجتماع للجامعة العربية على مستوى المندوبين (لاحظوا هنا أرجوكم أن عقد هذا الاجتماع وبهذه السرعة إنّما هو المؤشّر الأكبر على دخول العرب إلى مرحلة نوعية جديدة من مجابهة السياسة الإسرائيلية)، ومن المرجّح أن يصدر عن هذا الاجتماع البيان الذي سيتضمّن صيغة [أشدّ العبارات]، ما يجعل الشعب الفلسطيني مطمئنّاً، إلى أبعد حدود الاطمئنان بأن المدينة لم تعد تحت الخطر، وأن مقدّساته في هذه المدينة لن تُمسّ بعد اليوم، وأن الأمور تسير على خير ما يُرام بالمقارنة مع الأخطار التي كانت تواجهها حتى اليوم!
نحن في الواقع أمام بعض فصول الكوميديا السوداء التي ينطوي عليها الواقع الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي، ولم أجد أجمل وأعمق من تعليق الصديق خالد عيسى الذي كتب على صفحته مناشدة لمليار مسلم بأن يهبُّوا لنجدة إخوانهم “الهندوس” في القدس..!
كوميديا سوداء مكتملة الأوصاف والأركان.
لن ينفع بعد اليوم، ولن يُقبل بعد اليوم، وبعدما وصلنا إليه من “واقع” جديد، ومن مرحلة جديدة من “التصدي والمواجهة” أن تتم أي إدانة دون أن تكون [بأشدّ العبارات]، ولن يُقبل أي تحذير من أي نوعٍ كان دون أن يقترن هذا التحذير بالأخطار التي تنشأ جرّاء السياسات الإسرائيلية من تجاوز كل الخطوط الحمراء، باستثناء ما يمكن أن يُشار إليه حول درجة الاحمرار نفسه، كأن يتمّ وصف هذا الاحمرار بالأحمر الفاقع، أو القاني، أو غيره من درجات ومدلولات اللون الأحمر.
لم يعد مستغرباً، ولا مستبعداً في ضوء تسارع الأحداث في المدينة المقدّسة، وفي مسجدها الشريف، أن تتمّ مناشدة [كلّ الأطراف] بالهدوء وتخفيف التوتّر، وتجنّب التصعيد الذي يهدّد “السلام” والاستقرار، من قبل الإدارة الأميركية، ومن قبل دول العالم كلّه، إلى درجة صدور بيانات تندّد بالتصعيد بعبارات أقلّ شدّة من شدّة العبارات العربية والفلسطينية الرسمية والفصائلية، والبلدان الإسلامية كذلك، وقد تتطوّر الأمور إلى أبعد من ذلك، وصولاً إلى عقد اجتماع لمنظمة التعاون الإسلامي على مستوى المندوبين..!
مشكلة، أو لنقل أزمة كل اللاعبين على خشبة مسرح هذه الكوميديا السوداء ستكون في قادم الأيام القريبة.
كيف سيكون عليه الوضع، وما هي الصيغة التي سيتمّ اعتمادها في وصف التنديد والتحذير عندما تتفاقم الأوضاع آنذاك أكثر بكثير ممّا هي عليه الآن؟
مبدئياً تجاوزت إسرائيل الفصل الجديد من هذه المسرحية، وأعلن إيتمار بن غفير أن على إسرائيل الانتقال من مرحلة “الاحتواء” إلى مرحلة جديدة سماها مرحلة “قطع الرؤوس”، وهو يقصد الرؤوس في قطاع غزة، أما بتسلئيل سموتريتش فقد أعلن “مبدئياً”، أيضاً، أن الأمور قد “تجاوزت” كل مراحل “ضبط النفس”، وأن لا مجال “بعد اليوم” سوى لعملية عسكرية كبيرة في الضفة بدءاً من نابلس وجنين.
أشفق، كما يشفق ملايين من أبناء شعبنا الفلسطيني على جماعات الإدانة “بأشدّ العبارات”، وعلى جماعة “الخطوط الحمراء” كيف سيكون ردهم على ذلك في المرّات القادمة.
أي أنّ الأزمة القادمة ستكون كبيرة وعميقة لأن اللغة العربية بالرغم من كل قدراتها التعبيرية المذهلة، وبالرغم من الاعتراف العالمي، وما يشهد به أساتذة اللسانيات في هذا العالم لهذه اللغة في هذا المجال فإن الأمر بات على درجةٍ عالية من الصعوبة.
ماذا سيقولون بعدما قالوا كل ما قالوه؟
ماذا بعد “أشدّ العبارات”؟ وماذا بعد كلّ “الخطوط الحمراء”؟
نعم ستنشب أزمة من نوعٍ جديد، ليس سهلاً، وليس ممكناً التصدي لها وإيجاد أيّ مخرجٍ منها!
أغلب الظن أن الأمور ستأخذ طابعاً جديداً، ومساراً جديداً، أيضاً.
هنا خطر ببالي الصيغة الآتية:
وقف اجتماع الجامعة العربية بناءً على طلب من بعض ممثلي الدول العربية أمام إقدام المستوطنين على “ذبح القرابين” في باحات المسجد الشريف، وما يمثله هذا الفعل الشنيع من جرح مشاعر العرب والمسلمين، وقرر في ضوء هذه السياسة الإسرائيلية أن يرفع شكوى قضائية ضد الجيش الإسرائيلي، وضد حكومة الاحتلال بعدما سمحوا للمستوطنين بهذه الفعلة المشينة إلى منظمة البيئة الدولية، لما ألحقته دماء القرابين من ضررٍ فادح بالبيئة في المكان.
كما قرّر اجتماع مجلس الجامعة العربية، بعد التشاور مع وزارات الأوقاف في البلدان العربية والإسلامية القيام “بتسبيع” الباحات بالمياه العذبة “أي غسل الباحات بسبع مرّات متتالية”، وذلك حفاظاً على طهارتها، وتجنُّباً لأي آثار للدماء عليها.
كما أقرّ اجتماع جامعة الدول العربية الإبقاء على حالة من الطوارئ تحسُّباً واستعداداً لأيّ عمليات من ذبح القرابين.
أمّا إذا قامت إسرائيل باغتيال بعض “الرؤوس” الفلسطينية في قطاع غزة بعد إطلاق ستّة عشر صاروخاً وقذيفة على غلاف غزة. وقامت باجتياح شمال الضفة الغربية كلّه، وقتلت عدّة مئات من الفلسطينيين، واعتقلت عدة آلاف، أو عدّة من عشرات الآلاف فإن مجلس الجامعة العربية يقرر التوجه إلى عقد مجلس الأمن بطلب اجتماع طارئ لمناقشة تداعيات ذلك على “عملية السلام”، وعلى الاستقرار والازدهار في عموم المنطقة، وطلب صدور بيان “رئاسي” من المجلس للتنديد بهذه الممارسات الإسرائيلية بأشد العبارات، وما يمثله ذلك من تجاوز لكل الخطوط الحمراء.
أما البيانات الرسمية الفلسطينية فلن تقف عند هذا الحدّ، لأن هذا النمط من البيانات لم يعد يستجيب لما وصلت إليه المرحلة من خطورة، ومن مستويات لا يمكن السكوت عليها.
وفي هذا الإطار ستوجّه السلطات الرسمية الفلسطينية تحذيراً شديد اللهجة إلى حكومة الاحتلال بأن كل الاتفاقيات الموقّعة بين الجانبين باتت في “مهبّ الرّيح”، كما ستوجه حركة حماس تحذيراً مماثلاً تعلن فيه أنها لم تعد قادرة على الاستمرار “بالتفاهمات” التي تعهّدت بها بحضور كل من قطر ومصر وتركيا، وأن الأمور باتت على حافّة الخطر الشديد.
هذا ما ينتظر إسرائيل من أخطار شديدة على وجودها، وعلى أمنها “القومي” في حال إن أقدمت على كل ما تعلن أنها ستقدم عليه.
وفي ضوء ذلك، وفي ضوء كل هذه الأهوال التي باتت تنتظرها فقد أعذر من أنذر، وسيعرفون [أيَّ منقلبٍ ينقلبون].
لا توجد معطيات ومواد عينية، ووثائقية أكثر ثراءً من الواقع لكي يعيد المسرحيون الفلسطينيون، ويستعيدون نشاطهم الإبداعي لتقديم هذا الواقع بمسرح الكوميديا السوداء الذي نراه بأعيننا ونتابع فصوله.
أعان الله شعبنا في هذا الشهر الفضيل على هذا الواقع المرير، وعلى كلّ هذه الأهوال التي تحيط به من كل جانب، وخصوصاً الدعم العربي والإسلامي والدولي الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء، وأصبح عاجزاً وواهناً بأشدّ الأوصاف والعبارات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى