مقالات الخامسة

الطفل الفلسطيني في مرآة المعيار الأبيض الصهيوني

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

بقلم: ديمتري دلياني

منذ لحظة نشر صورة الأسير الإسرائيلي في غزة، أفيتار دافيد، انهالت ردود الفعل في البيئة الصهيونية لدوائر القرار السياسي الغربي، لا سيّما في البيت الأبيض، و10 داوننغ ستريت، والمستشارية الألمانية، بصورة هستيرية لا تُفسَّر إلا بانحيازٍ عنصريٍّ متأصّل. عواطف جيّاشة وتصريحات نارية متتابعة، وكأنها استجابة لنداءٍ لا يرى في الإنسان إنسانًا ما لم يكن إسرائيليًا. في المقابل، تتجاهل هذه العواصم نفسها، بشلل لا يخلو من التواطؤ، بل ومن شراكة مباشرة في جريمة متواصلة يرتكبها الاحتلال: تجويع أكثر من مليون طفل فلسطيني حتى العظم، وإغراقهم في ليلٍ بلا دواء، بلا ماء، وبلا أمل.

هذه الانتقائية الأخلاقية ليست زلّة في منظومة القيم الغربية، بل هي نتاجُ معيارٍ قِيَميٍّ سائد داخل دوائر الحكم المتماهية مع المشروع الصهيوني. معيارٌ يُضفي طابعًا دراميًا على ما يُصنَّف “ألمًا إسرائيليًا”، فيما تُدار الظهور عمدًا عن فظاعة المأساة الفلسطينية، وتُرسَّخ معالمُ واقعٍ يوميٍّ قاسٍ تحوّل فيه التجويع الابادي والانهيار وانعدام الأمل إلى نظامِ حياةٍ قهريٍّ مفروضٍ على شعبٍ بأكمله تحت الاحتلال والحصار. هذا الواقع لم يتكوّن من فراغ، بل نُسج بخيوطِ شراكةٍ دوليةٍ واضحة، تقودها حكومة الإبادة الإسرائيلية بشراكة مع البيت الأبيض، و10 داوننغ ستريت، والمستشارية الألمانية، وغيرها من خلال تمويلٍ مستمر، وتسليحٍ متواصل، ودعمٍ سياسيٍّ، يُتيح لدولة الاحتلال تنفيذ مشروعها للتطهير العرقي بحقّ شعبنا دون محاسبة أو رادع.

فحين يتحول أسير حرب جوّعته حكومته إلى “رمزٍ للإنسانية”، بينما يُغيّب الطفل الفلسطيني الجائع، المحاصر، والمُنتشَل من تحت الركام، من وعي المؤسسات السياسية والإعلامية في تلك العواصم، فالمسألة لم تعد ازدواجية، بل انحدارٌ أخلاقي واضح. والانحدار يصبح جريمة حين تُديمه الإدارات ذاتها التي تزوّد حكومة الاحتلال الابادية بالغطاء العسكري والسياسي لمواصلة الإبادة الجماعية في غزة.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

في الحالة الإسرائيلية، يمتد هذا الانحياز خارج دوائر صنع القرار السياسي ليشمل غالبية المجتمع، ضمن سياق إيديولوجيا صهيونية دموية وعنصرية قامت على عقيدة التفوّق العرقي والتهجير المنظّم، وشكّلت الإطار الذهني الذي أُقيم عليه المجتمع الإسرائيلي منذ انشائه. فقد تربّت أجيالٌ إسرائيلية متعاقبة على رؤية الفلسطيني كـ”مشكلة ديموغرافية” تُعالج بالأدوات الأمنية والاستعمارية، من غير اعتراف بوجوده كإنسانٍ متجذّر في أرضه، حاملاً لتاريخه وحقّه غير القابل للإلغاء في الحياة والكرامة والسيادة.

إن من يذرف الدمع على صورة دافيد ولا يرى في ملامح الطفل الغزيّ ملامح الإنسانية المكلومة، فقد حجب بصره وبصيرته عن أعظم ما يمكن للإنسان أن يملكه: حس العدالة. وإن من يذكر اسم أسير إسرائيلي ولا يجرؤ على تسمية مليون طفل فلسطيني يعانون التجويع والحصار الإسرائيلي، فهو يتنازل طوعًا عن انسانيته، إن وُجدت.

معركتنا اليوم تتطلب مواجهة منظومة الاحتلال بكل أدواتها، كما تستوجب العمل على محاسبة كل سياسي أو مسؤول في أي مكان في العالم يوفّر لها الاستمرارية من خلال الدعم المباشر أو الإسهام في تطبيع وجودها وممارساتها الاجرامية. وتشمل هذه المواجهة أيضًا أولئك الذين اختاروا الصمت، أو تعاملوا مع دماء أطفالنا كأرقام عابرة لا تستحق أن تكون جزءًا من المشهد السياسي والإعلامي المهيمن في الفضاء العام الغربي. فهذه المعركة هي من أجل الحقيقة والكرامة الإنسانية والحياة، ومن أجل تثبيت حضور الإنسان الفلسطيني في الوعي العالمي كصاحب حق ووجود لا يقبل الشطب أو التجاهل.

 

الكاتب: ديمتري دلياني، عضو المجلس الثوري والمتحدث باسم تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح، ومفكر فلسطيني في الشأن السياسي الدولي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى