الملكة وما بعدها
شبكة الخامسة للأنباء - غزة

كتب: مهند عبد الحميد:
عربة مسجى عليها تابوت الملكة، المزين بباقة أزهار منسقة الألوان، وإلى جانبها صولجان مرصع بالماس واللآلئ والياقوت والزمرد، جنود بأزياء ملونة يؤدون مراسيمهم برشاقة فائقة الدقة وهم يحملون التابوت ويسحبون العربة وينكسون رؤوسهم وقبعاتهم، موسيقى جنائزية تستولي على المشاعر، أميرات متشحات بالسواد وبقبعات عريضة سوداء، وأجراس كنيسة وستمنستر التي تُقرع بين فينة وأخرى في استقبال ووداع نعش الملكة، شوارع مزدانة بالأعلام وبالجنود والورود. ومواكب المشيعين الرسميين والأمراء الموزعين حول النعش، والآلاف المؤلفة من الجماهير المحتشدة في الشوارع التي عبرتها الجنازة وغير ذلك كثير.
العالم شاهد تشييع الملكة اليزابيث الثانية على هيئة عرض فني جمالي آسر يخلب الألباب، كأنه كرنفال برع في تحييد الموت وفي تحويله الى سردية جمالية على امتداد أيام بلغت ذروتها في اليوم العاشر. هل أرادت المملكة المتحدة إعادة تعريف نظامها الملكي باعتباره النظام المفضل؟ هل أرادت القول إن الواقع الذي تشهده بريطانيا والنظام العالمي الذي تشارك في قيادته جميل وخال من الأزمات أو أن أزماته تحت السيطرة؟
أسئلة كثيرة طرحتها مناسبة موت الملكة التي مكثت في الحكم أطول مدة زمنية. يمكن القول ان ما حدث من تشييع للملكة هو امتداد طبيعي لسياسة القوى المسيطرة في خلق هالة وهيبة للعائلة الملكية هدفها الحفاظ أو إعادة بناء علاقتها مع المجتمع البريطاني وحياته اليومية عبر تفاصيل واهتمامات شخصية وعاطفية تشتت اهتماماته الواقعية، لتكرس دور العائلة في الانحياز للطبقة الحاكمة عبر تمرير علاقات الاستغلال والاحتكار، وعبر القفز عن الازمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها بريطانيا راهناً.
رحلت الملكة وقد خلفت وراءها ملكية خاصة تشمل قاع بحر المحيط لبريطانيا حتى مسافة 12 ميلاً بحرياً، وعقارات ومساحات شاسعة من الأراضي العامة غير القابلة للبيع، ومزرعة خاصة تبلغ مساحتها 20 الف هكتار، وتملك العائلة شارع ريجنت في لندن وثروة شخصية بقيمة 426 مليون دولار، كما تملك جميع طيور البجع البيضاء في إنجلترا وويلز وجميع الدلافين والحيتان التي تعيش في مساحة 4.8 كيلو متر من الساحل، وتشمل قائمة ممتلكاتها 100 حصان و30 كلباً و30 جيب لاندروفر وعدداً آخر من السيارات التي تبلغ قيمتها أكثر من 10 ملايين دولار، و200 حقيبة يد. وتملك الملكة ماسة نجمة أفريقيا التي يبلغ وزنها 530.2 قيراط وهي اكبر ماسة مقطوعة في العالم. ويوجد بحوزتها أيضاً ماسة « كوهي نور» التي تعود الى شعب البنجاب بعد استعماره من قبل بريطانيا في العام 1849. وتخصص الحكومة البريطانية ميزانية سنوية بقيمة 117 مليون جنيه إسترليني للعائلة الملكية.
مقابل ذلك أثار موت الملكة جدلا في أوساط النخب السياسية ولدى الشعوب المستعمرة سابقاً حول الإرث الاستعماري البريطاني الذي لا يمكن فصله عن العائلة الملكية. قضية الماس والمجوهرات الثمينة والآثار التاريخية المسروقة التي لا تقدر بثمن، قضية أعاد موت الملكة ومراسيم تشييعها المدهشة طرحها بقوة. فلا يمكن للشعوب طي صفحة الماضي الاستعماري بالبساطة وعدم المسؤولية التي تتعامل بها الحكومة البريطانية. فحقوق الشعوب لا تسقط بالتقادم، وقد أصبح الاعتراف بالجرائم والاعتذار عنها لا ينفصل عن تعويض الاضرار التي لحقت بالمجتمعات واقتصادها في اسيا وافريقيا بسبب قرون من النهب الاستعماري.
بشكل خاص أثار موت الملكة الدور البريطاني في جريمة التطهير العرقي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني برعاية ودعم الانتداب البريطاني، فلا يستطيع الفلسطيني تجاهل استبدال الاستعمار البريطاني باستعمار إسرائيلي في فلسطين وقمع قوة الانتداب لحق الشعب الفلسطيني المشروع في التحرر وتقرير المصير أسوة بكل الشعوب التي استعمرت. لم تعتذر بريطانيا عبر حكوماتها وملكتها وأمرائها عن مسؤوليتها التاريخية في نكبة الشعب الفلسطيني. ولا يغير امتناع الملكة عن زيارة إسرائيل طوال 70 عاماً من الموقف البريطاني السلبي المتواصل، ولا استيائها غير المعلن من الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية.
الغريب في الأمر أن مناسبة موت الملكة اليزابيث دفعت إسرائيليين في صحيفة هآرتس إلى مطالبة الملك الجديد شارل الثالث بتصويب الموقف والمبادرة الى زيارة إسرائيل. لتكون النتيجة او المحصلة تثبيت الأمر الواقع دون تغيير.
لا شك ان المطلوب فلسطينياً هو الاعتراف البريطاني بالمسؤولية التاريخية عن نكبة الشعب الفلسطيني، من خلال التعويض السياسي كالاعتراف بدولة فلسطين وبحق اللاجئين في العودة، والتعويض المعنوي بالاعتذار الصريح عن المسؤولية الخاصة، والتعويض المالي عن الخسارة الضخمة التي لحقت بالشعب الفلسطيني منذ الانتداب وحتى نهايته وبالاعباء المترتبة بعده.
هذا الموقف لا يتحقق إلا بتحالف المؤيدين والداعمين البريطانيين لهذا الحق مع الشعب الفلسطيني، وعبر نضالات حقوقية ومطلبية مشتركة ومع مؤسسات دولية. ما يهم هو وضع هذه المهمة على محمل الجد بدءاً ببلورة موقف قانوني ووضع آلية للتحرك.
بموت الملكة تواجه بريطانيا تحديات كبيرة، كاحتمال انفصال بعض دول الكومنولث عن النظام الملكي، والمرشح للانفصال استراليا حيث لا يرغب 53% من الاستراليين أن يكون الملك الجديد شارل الثالث ملكاً لهم. وتواجه أيضاً تحدي الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي ستؤثر سلباً على مرحلة ما بعد الملكة، سيما ان رئيسة الحكومة اليمينية المتطرفة ستنحاز للشركات وكبار الرأسماليين، ما يؤدي الى تفاقم الازمة الاقتصادية الاجتماعية، والى إضعاف الحكم الملكي ومؤسساته. يقول بيان باسم النداء الاشتراكي في بريطانيا أن النظام الملكي لن يكون هو نفسه مرة أخرى فقد أصبح منفصلاً بشكل متزايد عن الحياة اليومية للناس العاديين، لهذا ستحاول المؤسسة الحاكمة استغلال وفاة الملكة للتغلب على الصراع الطبقي المتصاعد وإثارة حالة من الشوفينية.
البيان نقد قادة النقابات العمالية الذين قاموا بالانحناء لتقديم احترامهم للعائلة الملكية بعد وفاة الملكة من خلال إلغاء الإضرابات وتأجيل مؤتمر نقابات العمال لهذا العام، لكن البيان توقع ان مزاج الوحدة الوطنية سيكون قصير الأمد مع أزمة الطاقة المستمرة والركود الاقتصادي الذي يلوح في الأفق والهجمات على مستويات المعيشة، فضلاً عن السياسة المتهورة المنحازة لأرباب العمل من قبل رئيسة الحكومة ليز تراس. مؤشرات كثيرة تقول بأن بريطانيا ما بعد الملكة اليزابيث لن تكون كما قبلها.