مقالات الخامسة

النظام الدولي في عهد الرسوم الجمركية

كتب: هاني عوكل
حالة من الشك والقلق وعدم اليقين تسود الاقتصاد العالمي على خلفية قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية على عشرات الدول، وسط الحديث عن حرب ترامبية خفية تهدف إلى تغيير شكل النظام العالمي متعدد الأقطاب.
منذ بداية ولايته الأولى العام 2017، تحدث ترامب كثيراً عن استعادة القوة للاقتصاد الأميركي، بما يشمل إعادة إطلاق مصطلح «صنع في الولايات المتحدة الأميركية»، وإخضاع الصين سياسياً واقتصادياً لحسم التنافس بين العملاقين لصالح واشنطن.
الحرب التجارية بين البلدين آنذاك لم تتأثر كثيراً بقدر ما تأثرت من تداعيات جائحة «كورونا»، غير أن الرئيس ترامب ظل مصراً على موقفه في جعل أميركا في الطليعة عبر إكسابها القدرة التصنيعية المحلية التي تمكنها من الاستغناء عن الصادرات الصينية.
ترامب شن حرباً تجارية بلا هوادة مع أصدقائه وأعدائه، وأوروبا القريبة منه جداً تضررت من الرسوم الجمركية التي فرضها عليها، إلى درجة أن هذه المسألة فتحت النقاش عالياً في الدوائر الأوروبية بشأن الانسحاب التدريجي من التبعية للولايات المتحدة.
بالتأكيد، ستهرع العديد من الدول للتفاوض مع الولايات المتحدة بشأن الرسوم الجمركية المفروضة عليها، لأن لهذه الرسوم تأثيرات كبيرة على اقتصاداتها، خصوصاً الدول الفقيرة والناشئة التي تصدر العديد من السلع الاستهلاكية لواشنطن.
من الطبيعي أن تحدث رسوم ترامب الجمركية زلزالاً اقتصادياً وتجلب كوارث على العديد من الدول، والسبب أن الولايات المتحدة تعتبر ثاني أكبر مصدر للمنتجات في العالم بحوالى 3 تريليون دولار، والأولى من حيث الاستيراد بما يزيد على 3 تريليون دولار.
يريد الرئيس الأميركي من فرض هذه التعريفات الجمركية تصويب الميزان التجاري بجعل الدول تخفض حواجزها التجارية، لكنه أيضاً يرغب في وضع اشتراطات سياسية واقتصادية على الدول للقبول بصيغة تجارية مناسبة ترضي الولايات المتحدة أولاً.
في حسابه أن النظام العالمي الحالي متعدد الأقطاب، ينبغي أن تكون فيه الولايات المتحدة في الطليعة، وتعود كما كانت في السابق حينما حسمت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي بعد تفككه العام 1990، ولذلك فإن معركة الرسوم الجمركية أساسها التفوق على الصين.
وباعتباره رجل أعمال قبل أن يكون سياسياً، يجد ترامب أن حسم التنافس مع الصين ينبغي أن يأتي عبر الأدوات الاقتصادية، لأن التنمية الصينية حدثت بالقفزات الاقتصادية وكذلك تريد واشنطن أن تعود إلى القوة الاقتصادية العظمى في العالم.
ولذلك نجد حينما توجه واشنطن سهامها الاقتصادية ضد أصدقائها، فهذا مرده إلى أنها تبحث عن تصحيح العلاقات التجارية بما يمكنها الاستفادة المالية، وهذا ينطبق على دول الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك التي تعتبر شريكة تجارية معها.
من الطبيعي أن تشهد الأسواق العالمية خسارات وتأثرات شديدة في ظل حرب الرسوم الجمركية المتبادلة خصوصاً بين واشنطن وبكين، وهذا يعتمد على الطرف الذي يمكنه أن يتنازل بهدف تقليل تكلفة هذه الحرب الاقتصادية.
ثم إن حرب ترامب التجارية التي لاقت انتقادات شديدة في العالم، قد تؤثر أيضاً على الداخل الأميركي بما ينعكس على ارتفاع السلع الاستهلاكية والخدمية ويضر بالقاعدة الاستهلاكية الأميركية العريضة التي تستورد منتجات رخيصة من الصين وغيرها.
من الصعب فهم أن الولايات المتحدة التي أطلقت العولمة في تسعينيات القرن الماضي وتغنت بمبدأ حرية السوق، تسعى الآن إلى الانقلاب عليها بإعادة مفهوم الإنتاج المحلي لتعزيز الاقتصاد الوطني، بدليل أن ترامب يستهدف من الرسوم الجمركية إعادة بناء القاعدة الصناعية المحلية وتحويل البلاد إلى قوة اقتصادية تصديرية عظمى لا ينافسها أحد.
على كل حال، حينما يوقف ترامب الرسوم الجمركية لمدة 90 يوماً على الدول التي لم ترد على الرسوم الجمركية الأميركية، فكأنه يقول لهم، تعالوا إلى واشنطن واعرضوا خططكم علينا للتفاوض حول آلية تتناسب وتطلعاتنا الاقتصادية.
بالمختصر يمكن القول، إن ترامب برسومه الجمركية يريد إعادة بناء العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول وفق المصلحة الأميركية أولاً. هذا حدث مع كندا التي لامها على الهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات عبر الحدود الشمالية مع الولايات المتحدة، وكذلك الحال عندما فعل نفس الأمر مع المكسيك.
إذاً، الرسوم الجمركية تشكل مدخل ترامب لإعادة ترتيب العلاقات الدولية وجعل أميركا أولاً. مثل هذه الحرب التجارية ستعيد بالتأكيد شكل الاصطفافات والتحالفات الدولية، وقد تجعل واشنطن في علاقة توتر مع أقرب حلفائها، ما يهدد موقعها في سلم النظام الدولي وقد لا يجعلها بهذه الطريقة في الطليعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى