بين المجاعة والنار.. طوابير الأطفال على تكايا الطعام تتحول إلى مشهد يومي في غزة
شبكة الخامسة للأنباء - غزة

في قطاع غزة المُحاصر، بات مشهد طوابير الطعام أمام التكايا أكثر شيوعًا من مشاهد الحياة نفسها. لم يعد الأمر متعلقًا بموسم خيري كشهر رمضان، بل أصبح واقعًا دائمًا يفرض نفسه مع كل طلعة شمس، في ظل مجاعة خانقة ونقصٍ حاد في المواد الغذائية وغياب شبه تام للمساعدات.
تكايا الطعام من موسم الخير إلى ملاذ المجوعين
كانت التكايا سابقًا نادرة الوجود، مقتصرة على بعض المبادرات الخيرية الموسمية. أما اليوم، فتصطف العائلات، كبارًا وصغارًا، في طوابير طويلة لساعات، بحثًا عن طبق من العدس أو المكرونة أو الفاصولياء، وهي الأطعمة التي أصبحت تمثل قمة الترف في واقع المجاعة.
الأطفال، الذين لم يتجاوز بعضهم عمر الأربع سنوات، أصبحوا جزءًا من هذه الطوابير، يلهثون وراء أوعية الطعام الساخن، رغم الخطر المحدق، لا يفهمون حجم المأساة، ويظنون أن هذا هو شكل الحياة الطبيعي: “جوع وقصف وانتظار”.
التكايا تحت القصف.. استهداف متكرر وموت مبكر
لم تسلم التكايا من القصف الإسرائيلي، فقد وثق المكتب الإعلامي الحكومي استهداف الاحتلال لأكثر من 26 تكية منذ بداية العدوان، منها أربع تكايا منذ منتصف مارس/آذار فقط. كما تم قصف أكثر من 37 مركزًا لتوزيع المساعدات، واستهداف مباشر للعاملين في العمل الإغاثي، سواء أثناء الطهي أو التوزيع.
مع استمرار القصف، اضطر القائمون على التكايا إلى نصبها في أماكن مغلقة أو تحت الأرض، في محاولة لتقليل حجم الخسائر، إلا أن شح المواد الغذائية أوقف العشرات منها، ما عمّق من جراح الجوعى الذين فقدوا حتى هذا الملاذ المؤقت.
طفولة مصلوبة فوق نار الجوع
وليد، طفل لم يتجاوز عمره أربع سنوات، بات يصرخ غاضبًا حين تمنعه والدته من التوجه إلى التكية: “هذا لي أنا!”، كأنه يعلن مسؤوليته عن إطعام نفسه، بعد أن فقد والده منزله واستشهد الزوج في الأيام الأولى للحرب.
ورغم إصاباته المتكررة بالحروق أثناء تدافع الأطفال على الطعام، لا يتوقف وليد عن الركض خلف لقمة قد تبقيه على قيد الحياة، تمامًا كما تفعل آلاف الأمهات الغزيات ممن فقدن المعيل ولم يبق لهن سوى الانتظار والخوف والطوابير.
مقايضة الطعام بالذكريات
كانت إحدى النساء تصنع الحلويات وتبيعها عبر الإنترنت قبل الحرب، أما اليوم، فتوقظ ابنها مع ساعات الصباح الأولى ليحمل الطنجرة وينتظر دوره في الطابور أمام المدرسة القريبة. فرحتهم الوحيدة في الأسبوع الماضي كانت بوجبة من الأرز غير الناضج، أصلحته ببهارات المشاوي القديمة قائلة: “ريحة البر ولا عدمه”.
أما حسين، الذي كان يوزع الطعام في منزله يومًا ما، فقد صار اليوم ينتظر دورًا في تكية قد لا تنجو من القصف. يقول بأسى: “كان بيتي يعج بالعابرين من الفقراء، واليوم لا أملك سوى طنجرة فارغة وحلم بطبق مكرونة.”
المجاعة تُفتك.. أرقام الفقد تزداد
بحسب وزارة الصحة، سجّلت غزة أكثر من 58 حالة وفاة بسبب سوء التغذية، إضافة إلى 242 حالة وفاة نتيجة نقص الغذاء والدواء منذ مارس الماضي. كما تسبب نقص التغذية في أكثر من 300 حالة إجهاض.
وتحذر المنظمات الدولية من كارثة أكبر، إذ قالت الأمم المتحدة إن ما يصل من مساعدات لا يغطي الحد الأدنى من الاحتياج، بينما أكد برنامج الغذاء العالمي أن نحو مليوني إنسان في غزة يواجهون خطر المجاعة المباشرة إذا لم يتم التحرك العاجل.
في النهاية، يُقابل نجاح بعض الأطفال في ملء أوعيتهم بالطعام بوجع العائدين بخُفيّ حنين. تتزاحم الأيادي الصغيرة على قاع القدور لالتقاط الفتات، بينما تقف العيون الدامعة تتأمل في القهر دون أمل. هذا ليس مشهدًا من فيلم خيالي، بل هو واقع غزة اليوم: حياة بطعم العدس، وطفولة تُطهى على نار الجوع والقصف.