مقالات الخامسة

ترامب، ونشر الفوضى عالمياً

كتب: عبد الغني سلامة

لم يكن زيلينسكي أول رئيس يتعرض لمواقف محرجة مع الرئيس ترامب، فقد سبقه رئيس وزراء اليابان، وملك الأردن، ورئيس وزراء بريطانيا، ورئيس فرنسا.. تعامل معهم بطريقة غريبة، وغير دبلوماسية، والأهم من طريقة التعامل، أن ترامب يؤسس لنظام عالمي جديد، أو كأنه ينقلب على النظام القائم، بل وينقلب أساسا على السياسات الأميركية التقليدية ومرتكزاتها ومحدداتها.
وقد اختار طاقمه وأعضاء حكومته وسفراءه من اليمين المتطرف ومن التيار الصهيوني، ومن غلاة النيوليبرالية.. ما خيّب كل الآمال على ترامب بأنه سيجلب السلام، وسينهي الحروب (بحسب تصريحاته وتعهداته)، وأنه لن يكتفِ بإنهاء الحرب على غزة، بل سيعمل على إيجاد حل عادل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ومنذ اليوم الأول قرر ترامب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، وكان قبلها قد دعا للانسحاب من منظمة اليونسكو. ومن «اتفاق باريس للمناخ»، كما أوقفت أميركا مساهمتها في «الأونروا» تمهيدا لإغلاقها، كما انسحبت من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
وأطلق ترامب تصريحات معادية ضد المحكمة الجنائية الدولية، على خلفية مطالبة المدعي العام للمحكمة باعتقال كل من نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب.. ودعا لإنهاء عمل المحكمة!
وما زال ترامب يشكك في أهمية حلف الناتو وقيمته وجدواه الاقتصادية، وقد طالب الدول الأعضاء بزيادة المبالغ المخصصة للمساهمة في ميزانية الحلف، وهدد بعدم الدفاع عن الدول الأعضاء في الحلف التي لا توافق على زيادة إنفاقها العسكري إلى المستوى الذي يطالب به.
المسألة ليست مجرد تصريحات فاقعة لرئيس يبحث عن أصوات انتخابية، وهي أكثر من مجرد خطاب شعبوي يُراد منه إرضاء جمهور اليمين، هي على ما يبدو تأسيس لمرحلة جديدة (أميركيا وعالميا) بسماتٍ جديدة ومختلفة عن كل ما سبق، وانقلاب على السياسات الأميركية التي ظلت معتمدة في حقبة الحرب الباردة، وما بعدها. وهذا يشمل الانقلاب على سياسات الحزب الجمهوري نفسه، وستكون أولى ارتداداته داخل الولايات المتحدة.
محددات تلك الانسحابات وفق السياسة الأميركية الجديدة مبنية على أساس رؤية ترامب: «أميركا أولاً»، ونظرته السلبية تجاه العالم؛ حيث يعتبر أن العالم كله يسعى لاستغفال أميركا واستغلالها، وأن الدول الأعضاء في تلك المنظمات تتحالف ضد أميركا وإسرائيل..
لا شك في أن انسحابات أميركا من المنظمات والمعاهدات الدولية سيخلق فراغا قياديا على مستوى العالم، وهذا قد ينجم عنه زعزعة البنية الدولية، وعدم استقرارها، وإرباك لمؤسسات النظام الدولي، ما سيسمح بإفساح المجال للصين وغيرها للتدخل وملء الفراغ.
وعلى ما يبدو فإن ترامب ينوي تغيير العالم، بتدمير النظام القديم وبناء الجديد.
ومن الواضح في تصريحاته أنه مستعد للتخلي عن أوروبا، وتركها في مواجهة «التهديد الروسي»، مع تعظيم هذا التهديد من خلال بربوغاندا إعلامية كما فعلت أميركا مع إيران. وهناك مخاوف  لدى حلفاء أميركا التاريخيين أنَّه يُبيّت النيةَ ليبيع حليفتيه تايوان وأوكرانيا..
كما سيعمل ترامب على تقاسم النفوذ والمصالح في مناطق عدة حول العالم مع خصوم تاريخيين مثل روسيا، وهذا بحد ذاته أبرز انقلاب على المفاهيم والمحددات التي طالما وجّهت السياسة الخارجية الأميركية لعقود، المظهر الآخر لانقلابات ترامب خلو برنامجه من دعوات لفرض الديمقراطية، أو معاقبة دول على مسألة الحريات وانتهاكها حقوق الإنسان، بل إن الانتكاس عن قضايا حقوق الإنسان، وقضايا الجندر والهوية الجنسانية وغيرها من قضايا يجري التراجع عنها داخل الولايات المتحدة نفسها. وهذا يعني أنَّ مشروع التغيير منهجيّ ومؤسساتي وواسع، وربما يكون قابلا للاستمرار حتى بعد نهاية ولايته.
كما قامت إدارة ترامب بحل الوكالة الأميركية للتنمية USAID، وقد شبّه الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين، تفكيك الـ (USAID)  بقرار الاتحاد السوفياتي تفكيك «الكومنفورم»، وهي أهم الهياكل التي دافعت عن المصالح والأيديولوجية السوفياتية، وكان ذلك بمثابة بداية نهاية النظام السوفياتي الدولي.. فالوكالة الأميركية هي الهيكل الأساسي لتمرير السياسات الأميركية. والقوة الدافعة الرئيسة وراء مقولات العولمة كأيديولوجية رأسمالية، وأداة واشنطن التي من خلالها تروج لأفكار نشر الديمقراطية والليبرالية، واقتصاد السوق، وأيديولوجية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات.. ومن خلالها، وباسم تقديم المساعدات، تم الترويج للسياسات الأميركية حول العالم. بموازنة تصل إلى 50 مليار دولار سنويا.
تباينت الآراء بشأن تصريحات ترامب المثيرة للجدل، هل هي أسلوب رجل غير متزن، ونرجسي، ويتعامل مع قضايا العالم بمنطق رجل العقارات، دون خبرة سياسية، ودون أي بعد إنساني! أم هو أسلوب خبيث للتلاعب؟ حيث يحّول الأفكار المستحيلة إلى جدلية قابلة للنقاش. فهو يطالب بأشياء صعبة جداً، ويهدد ويتوعد، ليجعل الأطراف الأخرى تفكر بإيجاد حلول ومخارج وتقديم تنازلات.. بمعنى آخر، ما يفعله ليس مجرد هراء سياسي، بل هو تلاعب محسوب يعتمد على خلق واقع وهمي، بحيث تصبح الأفكار المستحيلة قابلة للنقاش.
وبينما ينشغل الإعلام العالمي بمقترحات ترامب المثيرة مثل تهجير سكان غزة تمهيداً للاستيلاء عليها وتحويلها إلى ريفييرا، أو شراء غرينلاند، وضم كندا، واستعادة قناة بنما.. يعمل ترامب (ومعه إيلون ماسك) بهدوء على تنفيذ خطة أوسع لتفكيك الحكومة الفدرالية الأميركية وإعادة تشكيلها وفقاً للمصالح الشخصية.
حيث يجري استهداف منهجي لأجهزة الأمن الأميركية، مثل الـ(FBI) والـ(CIA) واستبعاد وإضعاف رموز الدولة العميقة.
ربما تكون ولاية ترامب الثانية بمثابة نهاية عصر عالم أحادي القطبية، إذ سيضطر في نهاية المطاف إلى مراعاة مصالح روسيا والصين، وبقية القوى الصاعدة، ومن ناحية أخرى لا يستطيع أي رئيس أميركي القيام بكل ما يحلو له، فنظام الحكم في الولايات المتحدة معقدٌ جدا، ومتين وراسخ، حتى لو حاول شخص مثل ترامب القيام بتغييرات جوهرية، سيواجه توازنات المؤسسات التشريعية، وحسابات الخارجية، والأمن، والكونغرس، وتوازنات الدولة العميقة، والقوى الفاعلة المؤثرة، والقوى الاقتصادية، واللوبيات، وحتى جمهور الناخبين.
سواء نجح ترامب في مسعاه بشكل كلي أو جزئي، سيكون لسياساته أثر عميق في مستقبل أميركا والعالم، سينشغل العالم كله بتلك السياسات والقرارات الغريبة والرد عليها.
وخارجياً، سيواجه بقوى ودول طموحة، ولها مصالح حيوية ستدافع عنها، وشعوب حية ستناضل من أجل حريتها وكرامتها، فليس كل ما يريده ترامب قدراً، وللشعوب دوماً كلمتها، وللتاريخ حضوره ومكره.

* من دراسة لي منشورة في مجلة «أوراق فلسطينية»، العدد 36.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى