شبكة الخامسة للأنباء - غزة

تكيات الطعام في غزة تقرير خاص – طارق وشاح
على مدار أكثر من عشرين شهرًا من العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، تحولت تكيات الطعام من مبادرات إنسانية بسيطة إلى شبكات إنقاذ جماعي يعتمد عليها أكثر من 90% من الأسر النازحة.
ومع استمرار الغارات الجوية والقصف البري اليومي، يواصل متطوعو هذه التكيات عملهم رغم معاناتهم من نقص حاد في المواد الغذائية الأساسية، وانقطاع متكرر لإمدادات الغاز والوقود، واستهداف متعمد من قبل قوات الاحتلال.
منذ الأيام الأولى للحرب، ومع تدمير آلاف المنازل وتهجير سكان رفح وخان يونس وغزة، برزت التكيات كأحد أبرز تجليات التكافل الاجتماعي الفلسطيني. وقد لعبت دورًا محوريًا في توفير الطعام للنازحين في المدارس والمخيمات، لا سيما مع انهيار شبه كامل في المنظومة الاقتصادية والمعيشية، وتوقف الأسواق والمخابز والمؤسسات الحكومية والخاصة عن العمل.
تشير أحدث البيانات الميدانية حتى مايو 2025 إلى تدهور غير مسبوق في الوضع الإنساني؛ فمن أصل 156 تكية كانت نشطة قبل الحرب، لم يتبق سوى 47 تكية تعمل بشكل جزئي. وانخفضت حصة الفرد من الوجبات الغذائية إلى 12 وجبة شهريًا فقط، مقارنة بـ90 وجبة قبل اندلاع الحرب على غزة. ويعمل الطهاة المتطوعون لمدة لا تتجاوز ثلاث ساعات يوميًا بسبب شح إمدادات الغاز، فيما تعتمد الغالبية العظمى من التكيات العاملة حاليًا على التبرعات المحلية بعد انهيار نظام المساعدات الدولية بشكل شبه كامل.
قصف واستهداف مباشر لتكيات الإغاثة
توثق المنظمات الحقوقية استهدافًا ممنهجًا لمراكز الإطعام “التكيات”، فقد تعرضت 62 تكية و37 مركزًا لتوزيع المساعدات للقصف المباشر أو التدمير الكلي. في حادثة حديثة، استُهدفت تكية تقدم الطعام في شارع الجلاء بمدينة غزة، ما أسفر عن استشهاد 9 متطوعين.
يصف أحمد الصيداوي، مسؤول تكية في مخيم النصيرات وسط القطاع، الوضع بقوله: “نضطر لاستخدام مواد بدائية في الطهي، حيث نعتمد على أغصان الأشجار المقطوعة بسبب انعدام غاز الطهي. فكل وجبة نقدمها للنازحين قد تكون الأخيرة التي نتمكن من تحضيرها”.
تصريحات أممية تنذر بالمجاعة
أصدرت المنظمات الأممية والدولية سلسلة من التحذيرات الخطيرة، حيث وصفت منظمة الصحة العالمية الأزمة بأنها “أسوأ أزمة جوع يشهدها القرن الحادي والعشرين”.
بينما أشارت منظمة اليونيسف إلى أن “تسعة من كل عشرة أطفال دون الخامسة يعانون من نقص حاد في التغذية”.
وأعلن برنامج الأغذية العالمي أن احتياجات مايو 2025 الغذائية في غزة تتجاوز قدراتهم الإغاثية بخمسة عشر ضعفًا، في مؤشر واضح على حجم الكارثة الإنسانية التي تجتاح القطاع.
الحصار: خنق للبقاء واستنزاف للكرامة
الاحتلال لا يكتفي بالقصف، بل يستخدم الحصار كسلاح لخنق الحياة في غزة، حيث يُمنع دخول الغاز المنزلي اللازم لتشغيل المطابخ، والطحين لإعداد الخبز، وحتى المياه النظيفة في العديد من المناطق. توقف عمل التكيات لم يكن فقط نتيجة القصف، بل أيضًا بسبب استنزاف الإمكانيات، نفاد المواد، وإغلاق المعابر.
مواجهة الظروف القاسية
في ظل هذا الواقع المرير، برزت أشكال غير مسبوقة من الصمود والإبداع، حيث انتشر نظام المقايضة لتبادل الخدمات مقابل الطعام، كما ظهرت بدائل محلية مثل استخدام طحين الحمص، المعكرونة، والأرز بدلًا من القمح في تحضير الخبز. هذه المبادرات الشعبية تمثل شكلاً من أشكال المقاومة المدنية في وجه سياسة التجويع الممنهجة.
رسالة للإنسانية: التكيات ليست هدفًا عسكريًا
في الوقت الذي تغيب فيه الاستجابة الدولية وتفشل الأمم المتحدة في فرض الحماية للمبادرات الإنسانية، يوجه المجتمع الفلسطيني نداءً عاجلًا لفتح المعابر بشكل دائم، وتوفير حماية دولية للتكيات وطواقمها، والتدخل الفوري لوقف سياسة التجويع واستخدامها كسلاح حرب.
تكيات غزة ليست فقط مطابخ لإعداد الطعام، بل هي تجسيد للصمود تحت النار، وحركة مقاومة إنسانية تواجه الإبادة الجماعية بإصرار على الكرامة رغم الجوع والدمار. ورغم كل محاولات تحويل غزة إلى سجن مفتوح بلا غذاء أو دواء، تبقى هذه التكيات شاهدًا حيًا على إبداع الشعب الفلسطيني في مواجهة الموت.