جمال زحالقة: إسرائيل تجهز نفسها لمواجهة الجنائية الدولية
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
نشر موقع «يديعوت أحرونوت» مطلع الأسبوع الحالي، تقريرا مطوّلا حول جلسة سريّة للجنة الدستور والقانون والقضاء التابعة للكنيست، عُقدت قبل أشهر، حول تداعيات مشروع «إصلاح القضاء» على إمكانية محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. ويبدو أيضا أنه كانت هناك جلسات سريّة أخرى جرى خلالها بحث تعرّض ضباط الجيش، وحتى القيادات السياسية للملاحقة والمساءلة جراء ارتكاب جرائم حرب، إذا جرى الإقرار دوليا بأن القضاء الإسرائيلي لم يعد ـ «مستقلا وقويا وعادلا» ـ كما ارتسمت صورته المزيّفة حتى الآن.
ولكن توفّر الحيثيات القانونية لإدانة مجرمي الحرب الإسرائيليين غير كافية، في غياب إرادة سياسية عربية ودولية لمحاكمتهم وتحقيق العدالة لضحاياهم. قد يكون من السهل نسبيا البدء بإجراءات في القضاء الدولي ضد القيادات الإسرائيلية العسكرية والسياسية، المتورّطة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن من الأصعب الاستمرار بها حتى النهاية، وحتى ينال المجرمون عقابهم فعلا، ويقبعوا في السجون مدى الحياة، كما ينص القانون الدولي. ويتطلب تحقيق مثل هذا الأمر تفعيل الوزن السياسي للدول العربية والدول الصديقة، وحشد الضغوط من المجتمع المدني والقوى الديمقراطية في الدول الغربية القوية.
الجلسة السرية
شارك في الجلسة المذكورة، التي نشرت تفاصيل عنها هذا الأسبوع، أعضاء كنيست ومسؤولون أمنيون من الجيش والشاباك والموساد ومجلس الأمن القومي، وأجمعوا في حديثهم، خلال الجلسة، على أن هناك خطرا فعليا وداهما، بأن يتعرّض ضبّاط إسرائيليون للاعتقال والمحاكمة في الجنائية الدولية في لاهاي، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تبعا للشكاوى التي قدّمت للمحكمة الدولية، ولقرار التحقيق في «الحالة الفلسطينية» الذي اتخذ عام 2021. وقال المسؤولون الأمنيون بأن المحكمة العليا الإسرائيلية في وضعها الحالي هي «درع واقٍ» للقيادات العسكرية والسياسية أمام «خطر» التعرّض للملاحقة والاعتقال والمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم، وإذا جرى تنفيذ مشروع «تغيير القضاء» فهذا سيؤدّي إلى تغيير مكانة القضاء الإسرائيلي في المحافل الدولية، وبالتالي إلى خسارة «الدرع». وشكا المتحدثون في الجلسة السرية، من أنه إذا جرى إضعاف القضاء، سيصبح من غير الممكن تنفيذ سياسات والقيام بممارسات تدخل ضمن صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية، دون التعرّض للمحاكمة وللعقاب، الذي يصل حتى إلى السجن المؤبّد. وقالوا بأنّه في حال فقدان «استقلالية» القضاء، تفقد إسرائيل الحماية القانونية للاحتلال والاستيطان ومصادرة الأراضي وإطلاق النار على المتظاهرين وارتكاب جرائم الحرب. وتطرقت المداولات إلى أن بناة وحرّاس جدار الفصل العنصري، على سبيل المثال، قد يتعرّضون للمحاكمة في لاهاي، وشدّدوا على أنه لولا حماية المحكمة العليا، لوجد الجنرال هرتسي هليفي، رئيس الأركان الإسرائيلي نفسه في قفص الاتهام في المحكمة الجنائية الدولية، لأنّه هو الذي أصدر الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين على السياج المحيط بقطاع غزّة في السنوات 2018 – 2020، والقانون الدولي يحرّم إطلاق النار على متظاهرين عزّل. وقد أجازت المحكمة العليا هذه الممارسة الإجرامية وصادقت عليها وحمتها من تدخل المحكمة الجنائية الدولية. لا يستطيع أي رئيس وزراء أو وزير أمن أو أي مسؤول إسرائيلي تجاهل مثل هذا القلق في المؤسسة الأمنية، ولكن هؤلاء يستمعون إلى آراء مختلفة أيضا، ومنها مثلا التقرير الذي أصدره «منتدى كوهيليت» الذي يعد العقل المدبّر لليمين الإسرائيلي. وجاء فيه أنّ «اللغة المتداولة بشأن المحكمة الجنائية الدولية والإصلاحات القضائية، تعطي هذا الجسم تقديرا وسطوة أكثر بكثير مما يستحق. فخلال عشرين عاما منذ إقامته أدان ستة أشخاص فقط بارتكاب جرائم فظيعة، ولم يستطع فرض عقوبات جدّية على دول رفضت التعامل معه.. هذا لا يعني أن الأنشطة السلبية للمحكمة الجنائية الدولية ليس لها ثمن دبلوماسي، لكنّها لا تمثّل عقوبات صعبة تستلزم أخذها بعين الاعتبار في عملية اتخاذ القرار الديمقراطي في إسرائيل».
ويشن اليمين الإسرائيلي هذه الأيام هجوما مضادا لدحض الادعاء بأن التغييرات القضائية تؤثّر جديا في مكانة القضاء الإسرائيلي في «عيون» الجنائية الدولية، وبأن الادعاءات الإسرائيلية ضد التحقيق الدولي قد ضعفت. ومن المهم الانتباه إلى أنّه لا فرق بالمرة بين اليمين واليسار، حين يتعلّق الأمر بحماية مجرمي الحرب الإسرائيليين، بل إن «اليسار» يدّعي أنّه أكثر حرصا عليهم، وأنّه أكثر قدرة على الدفاع عنهم.
ادّعاءات إسرائيل
خلال السنوات الأخيرة، نُشر في إسرائيل كم هائل من الأبحاث والتقارير والمقالات عن المحكمة الجنائية الدولية وصلاحياتها، وعن إمكانية تعرّض إسرائيل وقياداتها للمحاسبة والمحاكمة في لاهاي. وجرى كذلك تشكيل لجان تخصصية مشتركة لطواقم قضائية وأمنية وسياسية لمواجهة «المخاطر» المحتملة. وتعتقد نخب الدولة الصهيونية بأن الجنائية الدولية قد تشكّل تهديدا جدّيا، ولكنّها تعتقد أيضا بأنّه يمكن «درء» هذا الخطر، باتخاذ تدابير وإجراءات وقائية وبالاجتهاد في تجهيز الادعاءات المضادة. ومن التدابير التي جرى تبنيها والعمل بموجبها إعطاء استشارة قضائية متواصلة للوحدات العسكرية القتالية لضمان ارتكاب الجرائم، من دون التعرّض لتهم جنائية، وهناك أكثر من «إبداع» إسرائيلي لافت في هذا المضمار. وتستغيث المؤسسة الأمنية للحفاظ على استقلالية القضاء كوقاية من تهم ارتكاب جرائم حرب. ومن أجل تقويض المزاعم الإسرائيلية قضائيا وإعلاميا ودبلوماسيا، يجب أن نعرفها أولا، ويمكن، وباختصار شديد، تلخيص الادعاءات الإسرائيلية بما يلي:
الصلاحية: ادعاء إسرائيل المركزي أن لا صلاحية للمحكمة بشأن جرائمها في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، لأنّ هذه الصلاحية تشمل الدول الأعضاء فقط، وإسرائيل ليست عضوا. أمّا فلسطين، فحتى لو انضمت للمحكمة فهي ليست دولة، وحتى لو كانت دولة فحدودها غير معروفة وغير معرّفة، والقرار بشأنها مؤجّل تبعا لاتفاقية أوسلو.
مبدأ الاستكمال: تدّعي إسرائيل بأن لديها قضاءً مستقلاً وقويّاً ونزيهاً وعادلاً، يلغي إمكانية تدخل المحكمة الدولية، وفق مبدأ الاستكمال، الذي ينص على أنّه إذا كانت للقضاء المحلي هذه الصفات وتوفّرت لديه الرغبة والقدرة للتحقيق، تنتفي حاجة استكمال التحقيق دوليا. هذا الموضوع هو محور النقاش الدائر حاليا في الدولة الصهيونية، حيث يدّعي معارضو مشروع التغيير القضائي أن إضعاف القضاء يُفقده مكانته الدولية ويفتح المجال لتفعيل مبدأ الاستكمال. في المقابل يشير المؤيدون إلى أن التغييرات لا علاقة لها بالبعد الجنائي (المرتبط بصلاحيات الجنائية الدولية) وأن من يحاكم الجنود ليست المحكمة العليا، بل المحاكم العسكرية، التي لا يمسّها مشروع التعديلات.
شدّة الخطورة: تعرّف صلاحيات المحكمة الجنائية بأنّها «إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي» وتدعي إسرائيل بأن التهم الموجهة إليها هي أقل خطورة من تهم يمكن توجيهها لدول أخرى، وإذ يبدو للوهلة الأولى أن هذا ادعاء ضعيف، إلّا أن إسرائيل تعمل في الكواليس لاستعماله في الضغط كي لا تكون جرائمها ضمن أولويات المحكمة، وهذا يعني جعل التحقيق يموت موتا بطيئا وصامتا.
إمكانية التفاوض: تدعي الدولة الصهيونية بأن تدخّل المحكمة الدولية يضر بمستقبل «عملية السلام» وحتى لو لم تكن قائمة، فإن مثل هذا التدخل قد يمنع تجديدها مستقبلا. وهي تزعم بأن مقتضيات تحقيق العدالة والسلام تتطلب الامتناع عن التحقيق، خاصة في قضية مثل الاستيطان، التي ستكون ضمن أجندة «المفاوضات» المستقبلية.
نجاعة التحقيق: هذا ادعاء إسرائيلي في منتهى الوقاحة، فقد أعلنت إسرائيل بأنها لن تتعاون مع التحقيق الدولي وستمنع دخول المحققين إلى المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وتبعا لذلك تدعي بأنه لن يكون التحقيق ناجعا، ولا يمكن الحصول على أدلة كافية ووافية لطرحها أمام المحكمة. الدولة الصهيونية هنا مثل الشخص الذي قتل والده ويطلب العون لأنّه يتيم!
مضمون التهم: جهّزت إسرائيل ردودا مفصّلة على التهم الموجهة، أو التي من الممكن أن توجّه، ضدها وضد جنودها وضبّاطها وقياداتها الأمنية والسياسية. وتدّعي في السطر الأخير، أنّ لديها مبررات ومسوّغات «مقبولة» قانونيا وأنّها لم ترتكب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
تجهز إسرائيل نفسها لمواجهة محتملة مع الجنائية الدولية، لكنّها تقوم أساسا بمحاولات حثيثة لمنع التحقيق بمجمله. وهي تراهن على الدعم الأمريكي والتفهم الأوروبي والتواطؤ العربي. وتراهن أيضا على أن العالم سيبقى مشغولا لسنين طويلة بتداعيات الحرب في أوكرانيا، وما ينجم عنها من أولوية التحقيق ضد روسيا. وأكثر من هذا كلّه تتوقّع إسرائيل أن تؤدّي الضغوط على السلطة الفلسطينية، التي قد تصل إلى التهديد بتدميرها، إلى تراجعها عن الشكاوى التي قدمتها فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن من المهم الإشارة إلى أنّه إذا حدث ذلك، لا سمح الله، فإن هذا لا يمنع المحكمة من مواصلة التحقيق ولديها الصلاحية الكاملة في ذلك. على الشعب الفلسطيني وعلى الدول العربية مسؤولية كبيرة في التصدّي لهذه الضغوط الإسرائيلية، مهما كان الموقف من السلطة الفلسطينية.
كاتب وباحث فلسطيني