جمال زحالقة: جرائم الحرب لن تنقذ الردع الإسرائيلي
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
أسفرت الجريمة النكراء، التي ارتكبتها إسرائيل في غزة فجر الثلاثاء عن استشهاد 13 فلسطينيا، بينهم ثلاثة من قيادات حركة الجهاد الإسلامي. واعتبرت إسرائيل العملية ردّا على إطلاق مئة قذيفة صاروخية في أعقاب استشهاد المضرب عن الطعام، الشيخ خضر عدنان، المعروف بأنّه من أهم رموز الحركة. وتحسّبا لرد الجهاد، وربما غيره أيضا، قامت إسرائيل بإعلان حالة التأهّب العليا في محيط قطاع غزّة، بما يشمل مدنا مثل بئر السبع وعسقلان وأسدود، حيث أغلقت المدارس أمام حوالي 300 ألف طالب، ومنع تجمهر أكثر من 10 أشخاص في الخارج، وألغيت النشاطات والفعاليات المختلفة، وبدأت عملية رحيل كبرى شمالا للآلاف من السكّان، وهي مرشّحة للتحول الى إخلاء كامل تبعا للتطوّرات، وجرى فتح الملاجئ في تل أبيب والمدن المجاورة، وطلبت قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية، من سكّان محيط قطاع غزّة، البقاء قرب الملاجئ والغرف الآمنة والانبطاح على الأرض، إذا جرى قصف وهم في خارج المباني. لقد دخلت مناطق واسعة في حالة شلل للاقتصاد وللحياة اليومية، وأغلقت شوارع رئيسة والمحال التجارية التي فتحت أبوابها كان خالية من الزبائن، كل هذا قبل ان تطلق قذيفة واحدة من غزة.
لقد كان الامتناع عن الرد الفوري تكتيكا جديدا للمقاومة الفلسطينية، وأدى هذا الامتناع إلى خسارة اقتصادية كبيرة، وإلى ضغوط نفسية كبيرة لسكان المناطق الجنوبية في الدولة الصهيونية. وكانت إسرائيل قد توقّعت عند شن عدوانها أن الرد الفلسطيني سيكون فوريا عبر إطلاق القذائف الصاروخية، كما كان الأمر عليه في الجولات القتالية السابقة. وقد دفع تأخير الرد القيادة الإسرائيلية إلى محاولة «جرجرة» الجهاد الإسلامي للمواجهة عبر عمليات استفزازية مثل اغتيال فلسطينيين في منطقة جنين واستهداف مزارعين في غزّة، لتعجيل الرد. وبعد «حرق أعصاب» الإسرائيليين وشل حياة مئات الآلاف منهم، جاء القصف الصاروخي المكثّف من غزة بمئات القذائف الصاروخية، مستهدفا ليس منطقة الجنوب فقط، بل منطقة تل أبيب أيضا، وأدّى إلى وقف هبوط وإقلاع الطائرات من مطار اللد لعدّة ساعات على الأقل. وليس معروفا بعد إلى أين ستؤدّي المواجهة الحالية، لكن من المؤكّد أن إسرائيل لن تحقّق الأهداف التي رشحت من تصريحات القيادات الإسرائيلية وتحليلات المراقبين.
أهداف إسرائيلية
نبض المشروع الصهيوني هو العنف والقتل والدمار، ليس بسبب خاصيّات وراثية أو مزايا ثقافية أو دينية، بل لأنه مشروع سطو مسلّح، ولا يصح مشروع سطو إن لم يكن مسلّحا، بحيث يكون السلاح جاهزا للاستعمال عند بروز أي مقاومة للسطو. من هنا فإن الحديث عن أهداف العنف الإجرامي يتعلّق أكثر بالسياق وبالتوقيت وبالحيثيات وبالملابسات وبتعرّجات مسار الأحداث، وليس بالخيار ذاته، المحسوم أصلا. وعليه فإن أي عنف تستعمله الدولة الصهيونية، لا يمكن أن يكون دفاعا عن النفس كما تدّعي، لأن السارق والمجرم لا يدافع عن نفسه، بل عن «حقّه» في ما سرقة واستولى عليه. والحقيقة أنّه ما دام هناك فلسطيني يدافع عن وطنه وشعبه ويرفض الظلم والاضطهاد والتشريد والاحتلال والاقتلاع، فإن آلة الحرب الإسرائيلية جاهزة لقمعه. أمّا من الناحية العملية المباشرة فهناك عدّة دوافع وأهداف لهذا العدوان الآثم:
أولا، ترميم صورة الردع أمام المجتمع الإسرائيلي داخليا، وهذه هي الأولوية الأولى للقيادات السياسية والأمنية. فقد شعر الإسرائيليون بفقدان القدرة على التخويف والردع، ما أثار القلق في صفوف قيادة الجيش، التي تريد المحافظة على ثقة الناس وعلى مساندتهم لها وإعجابهم بها. كما أن القيادة السياسية المتمثّلة بنتنياهو تعرف تأثير تآكل الردع على نفسية المجتمع الإسرائيلية وعلى معنوياته، واعتقدت أن علاج ذلك يكون بجريمة قتل مباغتة، تجعل الإسرائيلي يستعيد راحته النفسية. باختصار الهدف الداخلي لا يقل أهمية عن أي هدف آخر وربما يزيد.
لا يعقل أن يسكت العالم العربي والشعب الفلسطيني ينزف أمام عيونه، ونزيفه لا يتوقّف وبحاجة لإسعاف ذاتي أولا وعربي أولا أيضا
ثانيا، زرع حالة من الترويع والفزع باستهداف قيادات فلسطينية في بيوتها، وتوجيه رسالة بأن من «يضايق» إسرائيل سيدفع الثمن. وإذ جرى تسويق العدوان على أنّه يعيد الردع إلى مكانه، عبّر البعض عن شكّهم في ذلك، وكتبت شيمريت مئير المستشارة السابقة لرئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت على صفحتها على التويتر: «سؤال في المنطق: إذا كان هذا الاختراع باغتيال القيادة العسكرية للجهاد الإسلامي ناجحا فعلا، لماذا نحن بحاجة لتكراره للمرة الثالثة وتسعة أشهر بعد المرّة الأخيرة؟» وأضافت: «الضربة محلية وليست استراتيجية، وقد استنفدنا الضربة الأولى المفاجئة، ولا يمكننا أن نفاجئ مرتين». لقد حاولت إسرائيل بعدوانها استعادة قوة الردع، ولكن لا يبدو أنها حققت هذا الهدف، أو أنها في طريقها إلى تحقيقه إلا بشكل مؤقت ولفترة قصيرة.
ثالثا، تكريس الانقسام والتجزئة الفلسطينية هو هدف إسرائيلي واضح، فهي تسعى إلى الفصل التام بين الجبهات، بحيث تسكت غزّة حين تستهدف الضفة، وتسكت الضفة إن هي استهدفت غزة. وتهدف أيضا إلى إحداث شرخ في غزّة بين الجهاد الإسلامي وحماس، بحيث تستفرد بالجهاد، كما حدث سابقا. إن تفتيت الشعب الفلسطيني وترسيخ الانقسامات داخله هو استراتيجية مركزية للدولة الصهيونية تطوّرت كثيرا في السنين الماضية مستفيدة من الانقسام الذاتي، الذي ليس بحاجة إلى أي جهد منها، وهذا هدف يمكن إفشاله إذا توفر الحد الأدنى من الإرادة.
رابعا، تحقيق بعض الأهداف السياسية الداخلية، ومنها وقف تدهور حالة الليكود وبقية أحزاب الائتلاف الحاكم في الاستطلاعات، حيث خسرت أكثر من 20% من قوّتها. كما يريد نتنياهو استعادة قوة ردعه داخل الحكومة، بعد أن ظهر ضعفه مقابل بن غفير، وبعد أن بدا وكأنه فقد السيطرة على الأمور في حكومته. كما يسعى نتنياهو إلى تصدير الأزمة الداخلية وتحجيم المظاهرات والاحتجاجات والمحافظة على الائتلاف الحاكم عشية التصويت على الميزانية.
خامسا، تجربة أسلحة جديدة، وهذا هدف إسرائيلي دائم. هذه المرّة أجريت تجارب ميدانية على سلاح «عصا الساحر» أو «مقلاع داوود»، المضاد للصواريخ المتوسّطة الحجم والمدى. وبدأت إسرائيل بترويج أن التجربة كانت ناجحة، خلافا لتجارب سابقة فاشلة في سماء سوريا. وعادة ما تقوم الصناعة العسكرية الإسرائيلية بالترويج لبضاعتها «الناجحة» في معارك عسكرية حقيقية.
الجهاد الإسلامي
يعد الجهاد الإسلامي الحركة الثالثة من حيث القوّة الجماهيرية في المجتمع الفلسطيني، وهو يتميّز بأنه لم يدخل إلى منطقة ومنطق السلطة والدولة، وبقي يعمل وفق منطق الثورة والمقاومة، ما يجعله عصيا على الردع. ومع ازدياد الاهتمام الإسرائيلي بالجهاد الإسلامي، لم تستطع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إيجاد صيغة «ناجعة» للتعامل معه، والسبب أنه من الصعب ربطه بمصالح، أو بما من الممكن أن يخسره. وتصاب النخبة الأمنية الإسرائيلية بالإحباط حين تدرك أنه حتى الاغتيالات لا تنفع معه. فقد أعلنت إسرائيل مرارا أنّها قضت على القيادة العسكرية للجهاد، لتجد نفسها بسرعة أمام قيادات جديدة.
من المهم جدّا أن يفشل العدوان الإسرائيلي في تحقيق أهدافه، بحيث يعود الحديث عن وحدة البيت الفلسطيني، وتبدأ عملية استعادة الوحدة، وإحباط محاولات دق الأسافين بين أبناء الشعب الواحد وأصحاب القضية الواحدة. كما يجدر التفكير مليا بثنائية الدولة والثورة، وبتغليب منطق النضال ضد الاحتلال على منطق المحافظة على الاستقرار، وذلك عبر عملية تفكير استراتيجي تحرري آن الأوان لرد الاعتبار له.
كما يحق للشعب الفلسطيني أن يطالب، مثلما عادت سوريا إلى جامعة الدول العربية، يجب إعادة فلسطين إليها، ليس بالمعنى الدبلوماسي والتمثيلي، بل كقضية العرب جميعا، فلا يعقل أن يسكت العالم العربي والشعب الفلسطيني ينزف أمام عيونه، ونزيفه لا يتوقّف وبحاجة لإسعاف ذاتي أولا وعربي أولا أيضا.
كاتب وباحث فلسطيني