حسن أبوطالب: أيام القلق والانفلات فى إسرائيل
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
تعيش إسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة بكاملها مزيجاً من القلق وعدم اليقين بشأن ما يمكن حدوثه فى الأيام المقبلة. الأسباب واضحة حتى لكثير من المعلقين الإسرائيليين أنفسهم، ولكن القرار دائماً ما يأخذ ناصية العنف وتغييب السياسة والاعتماد على مقولة إن إسرائيل هى الأقوى ويحق لها أن تفعل فى الفلسطينيين ما تشاء.
فى الأسابيع الثلاثة الماضية، حدثت عدة عمليات قام بها أفراد فلسطينيون فى داخل العمق الإسرائيلى، فى بنى براك والخضيرة وتل أبيب، قتل فيها أحد عشر إسرائيلياً، وفى رد الفعل الإسرائيلى الانتقامى استُشهد 20 فلسطينياً، واعتُقل العشرات، وأصيب كثيرون. بعيداً عن التفاصيل تبدو هذه الصورة وكأنها نوع من الكر والفر بين شعب مُحتل وقوة احتلال غاشمة. أما فى التفاصيل فتزيد الصورة وضوحاً بأن العمليات الفلسطينية الأخيرة تُعبّر عن تحول نوعى مهم فى مسيرة النضال الفلسطينى. فلم تعد الفصائل المعروفة كحماس أو الجهاد أو سرايا القدس وغيرها هى العنصر الحاسم فى مثل تلك العمليات، رغم الأدوار التى يقومون بها فى التعبئة ضد الاحتلال، بل صار الفرد الفلسطينى نفسه هو العنصر الحاسم. الفرد الذى يعيش فى بيئة مليئة بالذل والإهانات والاعتقالات والسجون وغياب مصادر الرزق وفقدان الأمل واليأس مما يجرى، نتيجة التغييب القسرى للمصير الفلسطينى، فما كان سوى قيام شباب فلسطينيين بتوجيه رسائل فردية بأن الأمر فاق حدود الاحتمال، وأن القادم أسوأ مما قد يتصوره البعض.
فكرة العمليات الفردية غير المنتمية لتنظيم يخطط ويدفع بعض أفراده للقيام بعمليات ضد الاحتلال، يعمّق أزمة الأمن الإسرائيلى إلى حد كبير. فكرة الردع والترهيب باتت غير فعّالة كما كان الأمر فى السابق حسب ما يعتقد المحللون الإسرائيليون أنفسهم. الأمر أشار إليه بوضوح رئيس الوزراء بينيت ووزير دفاعه جانتس، باعتبار أن تلك النوعية من العمليات يصعب اكتشافها، لأنها تدور فى عقل منفذيها، وهم يتصرّفون بصورة طبيعية، ويمكنهم التسلل إلى عمق إسرائيل بسهولة، ويوجّهون أسلحتهم إلى عناصر مختلفة فى أماكن غير متوقعة، ومن ثم تنجح تلك العمليات بسهولة.
من أهم التحليلات التى نُشرت فى «يديعوت أحرونوت» 10 أبريل الحالى، لتوضيح الأسباب التى تجعل إسرائيل على سطح صفيح ساخن فى الأسابيع المقبلة، والتى تُعد فى الآن نفسه شهادة على عمق أزمة الأمن فى إسرائيل، ما وصفه يوفال ديسكين، الذى عمل رئيساً لجهاز الأمن العام الإسرائيلى «الشاباك» قبل عدة سنوات، بأن تلك العمليات الفردية نتيجة بيئة مشجّعة حفّزت الأفراد على القيام بما قاموا به، وهى بيئة مليئة باليأس فى الضفة الغربية وفى المجتمع العربى فى إسرائيل، تدفع إلى الشعور بأنه لا يوجد مستقبل، وليس هناك ما يمكن خسارته، لأن الخسارة الفادحة واقعة بالفعل.
ويوجّه ديسكين رسالة إلى القائمين بالحكم بأن يحاولوا التفكير «بما يحدث للجيل الشاب من المواطنين العرب فى إسرائيل، الذى ينمو داخل فراغ ملأته منظمات -حسب وصفه- إجرامية، تجارة مخدرات، جباية الإتاوة، اقتصاد أسود وكميات هائلة من السلاح غير القانونى الذى مصدره سرقات من قواعد الجيش الإسرائيلى المستباحة وبتهريبات». وهى حالة تمتد إلى المناطق حسب تحليله إلى مناطق مختلفة تحت إدارة السلطة الفلسطينية.
لكن حكومة بينيت اليمينية لا تعطى لمثل هذه التحليلات أى قيمة، رغم أنها من شخص يدرك بحكم عمله السابق كمسئول أمنى كبير الكثير من الحقائق الخاصة بمسئولية السياسات التى طبّقت فى السنوات العشرين الماضية وهدفت إلى دفع الفلسطينيين إلى الهجرة خارج إسرائيل لتفريغها من كل فلسطينى وعربى، تحقيقاً لهدف التهويد الكامل للدولة، وإذا بتلك السياسات تخلق واقعاً يُهدّد أمن إسرائيل من داخلها. والواقع أن هذه التحذيرات لا تعنى شيئاً لليمين الإسرائيلى، فالشعور بالقوة وبعدم المحاسبة من قِبل أى مؤسسة دولية والحماية الأمريكية والأوروبية لأى أفعال انتقامية تقدم عليها إسرائيل ضد الفلسطينيين باعتبارها حقاً مشروعاً للدفاع عن النفس، فضلاً عن الإهمال التام لكل الحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطينى، كلها عوامل تدفع إسرائيل إلى الارتكان إلى العنف المطلق ضد ما هو فلسطينى، وسياسات العقاب الجماعى، والمزيد من الاعتقالات والقتل، تحت شعار «أطلق النار لتقتل»، وهدم منازل الفلسطينيين وعائلات المقاومين للاحتلال.
وفى الرد على عملية شارع ديزنجوف فى تل أبيب، التى نفّذها شاب من مخيم جنين، وكشفت حجم التدهور الأمنى الإسرائيلى، أطلقت التهديدات ونفذت عمليات اقتحام لاعتقال والد وإخوة منفذ العملية وتقرّر هدم منزلهم، ومنعت زيارات أهالى جنين عن أبنائهم المعتقلين فى السجون الإسرائيلية، كما تم منع آلاف من حائزى تصاريح المرور لغرض العمل من الدخول إلى المناطق الداخلية. وهى كلها سياسات تدل على عدم استيعاب حقيقة ما يجرى، والدلالات العميقة لحالة اليأس التى يعيش فيها جيل فلسطينى شاب نشأ فى أجواء الاحتلال البغيضة، وتعمّقت لديه مشاعر الرفض للاحتلال والعمل بأى طريقة لإثبات فشله فى اقتلاع جذوة المقاومة. وما دامت السياسات التقليدية للاحتلال على حالها فلم تحصد سوى المزيد من الفشل والتدهور وخيبة الأمل. ولا يبدو أى أمل فى أن تغيّر النخبة الإسرائيلية مواقفها وتنظر إلى الواقع الفلسطينى بعين أخرى، تعتمد فيها الفعل السياسى والبحث عن حل تاريخى يعطى للفلسطينيين حقوقهم المشروعة فى دولة قابلة للحياة، والتخلى عن أوهام التفوق العسكرى الذى لا يقهر.
تتعمق أزمة إسرائيل من زوايا متعدّدة، تتكاتف جميعها فى لحظة مهمة يعيشها العالم والشرق الأوسط على وقع الحرب فى أوكرانيا، والمفاوضات المتعثرة للبرنامج النووى الإيرانى، إضافة إلى فقدان حكومة بينيت الأغلبية وارتفاع احتمالات سقوطها قريباً، وعلو صوت نتنياهو وانتقاداته ومناوراته، واحتمالات التوجه إلى انتخابات قد تفضى بعودة نتنياهو، أو أن يشكل تحالفاً يمينياً جديداً يرأس به وزارة أخرى، ليعيد معها كل سياساته المتطرفة ضد الفلسطينيين وضد الكثير من شعوب ودول المنطقة.
مثل هذا المناخ يضغط على بينيت، ويبدو أن المخرج لديه، هو إثبات قدرة أكبر على قمع الفلسطينيين، عبر عمل عسكرى كبير ضد مخيم جنين المقاوم، كما كان الأمر قبل عقدين بالتمام، ويتم الترويج له باعتباره المخرج لاستعادة هيبة الأمن الإسرائيلى. فى حين تتوالى التحذيرات من قِبل مجموعات الفلسطينيين بأن أمراً كهذا سيفتح باب الجحيم فى عموم الضفة الغربية وقطاع غزة وربما فى المحيط الإقليمى. مما يعنى أن الأيام المقبلة قابلة للانفجار الكبير.