شبكة الخامسة للأنباء - غزة

“حكايات من خلف الجدران”.. أصوات الأسرى المحررين تفضح جرائم الاحتلال تقرير خاص إعداد: سهر دهليز
بينما يستعيد عشرات الأسرى الفلسطينيين أنفاسهم الأولى في دروب الحرية بعد سنوات من الاعتقال القاسي، تتوالى الشهادات التي تكشف فصولًا دامية من الانتهاكات داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي. شهادات لا تروي فقط تفاصيل التعذيب والتنكيل، بل تفضح منظومة متكاملة من الإذلال اليومي والخرق الفاضح للقانون الدولي والمواثيق الإنسانية. فقضية الأسرى لم تكن يومًا مجرد أرقام في تقارير، بل هي تجسيد حيّ لمعاناة شعب صامد، يرى في صبرهم صورة الكرامة، وفي صمودهم عنوانًا للنضال. الأسرى هم حراس المعنى الوطني من خلف القضبان، حولوا الزنازين إلى مدارس للصبر، وأجسادهم إلى ميادين صراع لا تهزمها القيود. وبين قهر السجان وكرامة الأسير، تظل هذه القضية شاهدًا مفتوحًا على الاحتلال، وعلى غياب العدالة، وانتظار ضمير عالمي ينهض من سباته.
“قبر الأحياء”..
وصف جمال دغاه، أحد الأسرى المحررين من قرية مزارع النوباني شمال رام الله، تجربته القاسية في سجون الاحتلال ب “قبر الأحياء” قائلًا: “ما مررنا به لا يُصدّق. كنا نتعرض للضرب يوميًا ونُحرم من الطعام، فقدت نحو ثلاثين كيلوغرامًا من وزني، وحالتي الصحية والنفسية تروي القصة كاملة”.
ويضيف دغاه: “أرادوا أن يطفئوا فينا إرادة الحياة، لكننا تشبثنا بالصبر والأمل، وخرجنا بأرواح أقوى من جدرانهم”.
شهادته تطابق عشرات الروايات التي وثّقها نادي الأسير الفلسطيني، والتي تكشف عن سياسة “التجويع والتنكيل” التي مارستها مصلحة السجون الإسرائيلية بحق الأسرى منذ بدء العدوان على غزة.
وفي ختام حديثه، قال دغاه بكلمات مؤثرة: “خرجنا من السجن بأجساد منهكة، لكن أرواحنا حرة. الاحتلال قد يعتقل أجسادنا، لكنه لا يستطيع أن يعتقل إرادتنا”.
كلمات الأسير المحرر تختصر وجع المئات ممن غادروا الزنازين مؤخرًا، حاملين في أجسادهم ندوبًا لا تندمل، وفي قلوبهم عزيمة لا تنكسر.
شهادات مروعة… الضرب والصعق والإذلال واقع يومي خلف القضبان
كشف الأسير المحرر ثائر أبو سارا (17 عامًا) من نابلس، في مقابلة له، تفاصيل صادمة عن ما تعرّض له خلال فترة اعتقاله، قائلاً: “تعرضت للضرب المبرح والصعق الكهربائي، كانوا يتركوننا لساعات طويلة بلا طعام أو دواء، بل يسخرون حين نطلب الماء أو المسكنات”.
وأضاف: “كنت أسمع صراخ الأسرى في الزنازين المجاورة، وكلما صرخ أحدهم، كنت أعلم أن دوري قادم لا محال”.
وفي شهادة مؤلمة أخرى، تحدثت الطالبة الجامعية شذى جرّار (24 عامًا) من جنين عن تجربتها القاسية داخل سجن هشارون، مشيرة إلى الانتهاكات المستمرة بحق الأسيرات: “وُضعت في زنزانة مراقبة بالكاميرات حتى داخل دورة المياه، كان الهدف إذلالنا نفسيًا وكسر كرامتنا. امتنعت عن الطعام لأيام لأحافظ على خصوصيتي وكرامتي”.
وأضافت: “كنا نسمع صراخ الأسيرات ليلاً، وكان الطرق على الأبواب الحديدية وسيلتنا الوحيدة لنتواصل ونواسي بعضنا”.
أما الأسير المحرر فيصل (طلب عدم نشر اسم العائلة لأسباب أمنية)، فأكد أن ما عاشه داخل السجن يفوق الوصف: “الضرب كان عشوائيًا، والإهانات لا تتوقف. ما تعرضنا له يُوزّع على نصف الأمة لكفاهم وجعًا، لكننا كنا نرد بالصبر والإيمان أننا سنخرج يومًا”.
وأشار إلى أن إدارة السجن تعمدت عزله ومنعه من الزيارات والاتصال بالعالم الخارجي “حتى لا تكون هناك شهود على الجرائم”.
هذه الشهادات تنضم إلى مئات الروايات التي وثّقتها مؤسسات حقوقية، وتؤكد تعرض المعتقلين، بمن فيهم الأطفال والنساء، لانتهاكات جسيمة، في ظل غياب المساءلة الدولية.
قوائم الحرية.. وشهادات للتحقيق
نشر مكتب إعلام الأسرى خلال الأيام الماضية قوائم رسمية تضم أسماء المئات من المحررين ضمن صفقة التبادل الأخيرة، والتي شملت أسرى من مختلف الأعمار والمناطق، بينهم: نصري عايد حسين عاصي، محمد جمال محمد عقل، أحمد عادل جابر سعادة، وغيرهم من أصحاب الأحكام العالية.
القوائم أكدت أن عملية الإفراج لم تقتصر على المعتقلين الموقوفين حديثًا، بل شملت أيضًا أسرى قضوا سنوات طويلة في السجون، بعضهم تجاوزت مدة اعتقاله عشرة أعوام، ما يعكس شمولية الصفقة واتساع نطاقها.
بالتوازي مع هذه التطورات، تصاعدت المطالب الحقوقية بعد توالي الشهادات المؤلمة من الأسرى المحررين حول ما تعرضوا له من تعذيب وتجويع وإهانة.
هيئة شؤون الأسرى والمحررين، ونادي الأسير الفلسطيني، أصدرا بيانات متلاحقة دعيا فيها إلى فتح تحقيق دولي عاجل في ما وصفاه بـ”جرائم التعذيب المنهجي” داخل سجون الاحتلال.
وقال المتحدث باسم الهيئة:”هذه الشهادات ليست قصص أو حوادث فردية، بل أدلة دامغة على سياسة ممنهجة هدفها كسر إرادة المعتقلين الفلسطينيين”
وأشار إلى أن الهيئة تواصل جمع الوثائق والشهادات تمهيدًا لتقديمها إلى المحكمة الجنائية الدولية ضمن ملف جرائم الحرب.
دعوات حقوقية دولية
من جهتها، دعت منظمات حقوقية دولية، بينها العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلى السماح الفوري لبعثات الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارة المعتقلات، خاصة في ظل ورود تقارير عن وفاة عدد من الأسرى تحت التعذيب، وتدهور الأوضاع الصحية لعشرات آخرين.
تكشف شهادات الأسرى المحررين أن سجون الاحتلال ليست سوى امتداد لحرب مفتوحة على الإنسان الفلسطيني، تُمارس فيها أبشع صنوف التعذيب والتنكيل، في محاولة لكسر الروح وإخماد الصوت. ومع ذلك، خرجوا ليؤكدوا أنهم ليسوا أرقامًا في إحصاءات، بل شهود على الحقيقة، ورسُل كرامة لا تنحني.
قضية الأسرى ليست تفصيلاً في معركة التحرر، بل هي قلب الصراع وميزان كرامة وطنٍ بأكمله. أولئك الذين قاوموا خلف القضبان لا يكفيهم أن تُفتح الأبواب، بل يجب أن تُروى تضحياتهم وتُحاسَب دولة الاحتلال على جرائمها. فصمودهم، رغم القيد والجراح، يوقظ في الأجيال إيمانًا لا يموت بأن الحرية تُنتزع ولا تُوهب. وإن الوفاء لهم يبدأ من هنا: من تحويل وجعهم إلى قضية عالمية لا تُنسى، حتى تُهزم الزنازين وتُكتَب الحرية.