حكايا في زمن الحرب.. الصحفي سامي أبو سالم: “دارنا مش بس حيطان”

حين يفقد الإنسان بيته، فهو لا يخسر مجرد جدران وسقف، بل يخسر ذاكرةً كاملةً، لحظاتٍ من الفرح والحزن، وأصواتًا ضحكت وبكت بين أرجائه. الصحفي الفلسطيني سامي أبو سالم يروي بوجع تفاصيل عودته إلى شمال قطاع غزة ليجد أن منزله لم يعد موجودًا، وأن الصور التي وصلته لا تعكس الحقيقة المؤلمة. فالمنزل لم يكن مجرد بناء، بل كان الوطن الصغير الذي احتضن أسرته، وذكرياته، وأحلامه.
الصدمة الأولى: رؤية الدمار بأم العين
ما إن عاد الصحفي الفلسطيني سامي أبو سالم من وسط قطاع غزة إلى شماله، حتى أدرك أن كل الصور التي وصلته عن منزله المدمر لم تعكس الحقيقة كاملة. كانت الفجوة بين ما شاهده في الصور وما رأته عيناه هائلة. وعندما وصل إلى حيه، لم يجد منزله، بل كومةً من الحجارة، اجتاحه شعورٌ بالإهانة والضعف، وكأن أحدًا كشف عورات عائلته. لم يستطع كبح دموعه، فقد أدرك أن تدمير البيت ليس مجرد فقدان للجدران، بل هو سحقٌ للكيان الاجتماعي والنفسي، وتفتيت للعائلة، وانتهاكٌ للخصوصية، ومحاولة لطمس التاريخ الشخصي.
البيت.. أكثر من أربعة جدران
لم يكن منزل عائلة أبو سالم مجرد جدران وسقف، بل كان الوطن الصغير الذي احتضنهم جميعًا. فيه كبر، وفيه تغير صوته، وفيه عاشت أسرته كل تفاصيل الحياة اليومية، من الأفراح إلى الأحزان، ومن النجاحات إلى الإخفاقات. البيت كان حاضرًا في كل معاركه البريئة، كان شاهدًا على أيامه الصعبة ولحظاته السعيدة.
ذكريات لا تموت تحت الركام
في هذا البيت، تزوج من سها، وسارت زوجته فيه في شهرها التاسع من الحمل، وهي تحتفظ بأثمن ما تملك: ملاقط الحبل السري لأطفالها وأساورهم البلاستيكية التي حملت أسماءهم في المستشفى عند الولادة. هناك نبتت أسنان أطفاله، وسهر ليالي طويلة يراقب درجة حرارتهم، وتحسس رقابهم وأقدامهم عند المرض. هذا البيت كان مليئًا بأصواتهم، بكاءً وضحكًا وصراخًا وعطسًا، وكان يحتضن روائحهم، من رائحة الحليب إلى المقلوبة والزعتر والسمك والسلطة الغزية والقهوة.
البيت.. مدرسة التاريخ والحياة
لم يكن المنزل مجرد مأوى، بل كان مدرسة تعلم فيها أطفاله القراءة والكتابة، وسمع فيها عن نكبة 1948 من والدته، التي قصّت عليه كيف كانت معززة مكرمة في قريتها “برير”، ثم أصبحت لاجئة حتى اليوم. وفيه تعلموا الطبخ، وتصويب تلاوة القرآن، وحفظ جدول الضرب، وكتابة مواضيع عن “الموناليزا” و”العشاء الأخير“، وحتى التنافس في لعبة الشطرنج. كان المنزل أيضًا مقرًا للموسيقى، حيث بدأ ابنه كريم العزف على العود الذي يرقد الآن تحت الأنقاض.
البيت.. مسرح للحياة اليومية
كان المنزل مسرحًا تملؤه الحياة، فيه كان ابنه محمد يقلد معلميه وزملاءه، وفيه نظمت أعياد الميلاد، وفيه رقصت ليلى بفستان زهري أهدي إليها، وكانوا يستمعون ليلة العيد إلى “يا ليلة العيد أنستينا” لأم كلثوم. كان المكان يعجّ بالحياة، من الدبكة على صوت اليرغول وشفيق كبها، إلى الخوف من أصوات الانفجارات في الحروب السابقة. وفيه خرجت جنازة والده.
أغراض تحمل الذكريات
تحت ركام هذا البيت، لا تزال الملابس، ودفاتر الأولاد، وحقائبهم المدرسية، وألعابهم، وحقائب السفر التي أحبها، والهدايا التذكارية من الدول التي زارها. هناك أيضًا مكتبته الصغيرة، التي تحوي مجلات “العربي”، و”فلسطين الثورة”، و”الكرمل”، و”البيادر السياسي”، وصور أطفاله من لحظة ميلادهم وحتى شهادات تفوقهم.
السكينة التي انتهت تحت الركام
كان البيت منبع السكينة، حيث كان يستيقظ فجرًا على صوت أمه وهي تصلي، وكان يسمع الحروف الصفيرية تتردد في الصالون قبل أن يتمكنوا من ادخار المال لتركيب البلاط بعد سنوات طويلة من البناء “حجر حجر” حتى أصبح أربعة طوابق. رغم مرور الزمن، ظل البلاط القديم صلبًا ولامعًا، بينما البلاط الحديث تكسر وتشقق في وقت قصير.
ذكريات الأخوة.. مؤامرات البحر وأحلام الطفولة
في هذا المنزل، تعارك مع أخيه عادل على الجوارب والملابس الجديدة، ونما على سطحه، وهطلت الأمطار عليهما سوية. كانا يتقاسمان الفراش والطعام، ويخططان سرًا للذهاب إلى البحر. كانوا يجتمعون لسماع صوت فلسطين وإذاعة “مونت كارلو” في زمن الانتفاضة.
“الدار مش بس حيطان”
لم يكن البيت مجرد بناء، بل ذاكرة وهوية وكيان عائلي. تحت أنقاض هذا المنزل، لا تزال أصوات الماضي تنبض، وصور الذكريات حاضرة. فكما قال الصحفي سامي أبو سالم:
“الدار مش بس حيطان”.