حكايا في زمن الحرب.. مادلين شقليه: من المايكروفون إلى الخيمة
"علمتنا الحرب ماذا يعني" الاختصار"، اختصرنا حياتنا في خيمة، احتياجاتنا في حقيبة وأحلامنا علقناها في قلوبنا ومضينا بها بين موت وخذلان"
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
حكايا في زمن الحرب إعداد: شيماء مقداد
كانت مادلين شقلية، الإعلامية ذات الحضور المميز، تسكن عوالم الإذاعة والتلفزيون بأحلامها الكبيرة وشغفها الذي امتد لسنوات طويلة. منذ أكثر من أربعة عشر عامًا، بدأت رحلتها في الإعلام، تقدم برامجها التي أحبها الناس، وخاصة برنامجها الإذاعي الصباحي “على طاولة الصباح”، حيث كانت تروي قصص النساء والأطفال، تتحدث عن قضايا الناس، وتنثر جرعات من الإيجابية التي تخفف وطأة الحياة.
لكن الحرب التي اندلعت غيّرت كل شيء. انقلبت حياتها رأسًا على عقب مثل حياة آلاف العائلات في غزة. فقدت مادلين أختها وابنة أختها في لحظات موجعة، وتشردت من بيت إلى آخر بحثًا عن الأمان.
منذ أكثر من عام، تعيش في خيمة. خيمة بحجم الجرح الذي خلّفته الحرب في غزة، خيمة ليست مجرد قماش مشدود على أعمدة، بل هي كل ما تبقى لها من حياة كنت تسميها يومًا” مستقرة” .
“لم يكن النزوح مجرد فقدان مكان؛ كان فقدان حياة مستقرة، ذكريات، وأحلام، هو شعور بالوحدة والضياع”
هكذا كان لسان حالها وهي تنتقل من مكان إلى آخر، من الزوايدة إلى خان يونس، ثم إلى دير البلح. كانت الرحلة قاسية، ترافقها الرايات البيضاء على السيارات، كرمز استجداء للنجاة وسط خطر محدق. في تلك اللحظات، استشهدت أختها ” مرام”، دفنت دون وداع، ودون أن تعرف العائلة مكان قبرها في البداية.
فقدت مادلين شقيقتها في السابع عشر من أكتوبر، وهو يوم ميلاد ابنتها، تقول: ” شعرت أن الزمن توقف. كان الألم أكبر من الكلمات، أكبر من قدرتي على تحمله. لم أستطع حتى أن أودعها. لم أعرف أين دفنت. كل ما تبقى لي هو ذكريات مبعثرة وصور أحاول أن أستعيد ملامحها من خلالها. لكن، هل هناك مساحة للذكرى وسط الخراب؟”
لم تكن “الخيمة” خيارًا بالنسبة لمادلين، بل كانت قدرها الجديد. قررت أن تجعلها منصة لأصوات الجميع، النساء اللواتي فقدن كل شيء، والأطفال الذين يكبرون في ظل الحرمان، والرجال الذين يحملون أثقالًا فوق أثقالهم.
قررت أن تبدأ من جديد، من الصفر أطلقت مادلين “بودكاست الخيمة” من قلب هذه الخيمة، حيث أصبح السقف القماشي استوديو، والأعمدة كاميرات، وصوتها هو صدى ما يشعر به أهل غزة.
الخيمة التي أصبحت مأوى للكثير من العائلات، تحولت إلى استوديو بدائي، يسجل قصص المعاناة، يعكس وجع النساء والأطفال الذين فقدوا كل شيء. بمساعدة زملاء تطوعوا للتصوير والمونتاج.
استطاع البودكاست كسر معايير الإنتاج التقليدية. أصبح الخيمة رمزًا للتحدي والإصرار، حيث سطرت مادلين قصص النساء اللواتي فقدن خصوصيتهن، استقلاليتهن، وحتى أبسط حقوقهن في الأمان. كانت تنقل الواقع كما هو، النساء اللاتي يعجنّ على النار، يغسلن بأيديهن، ويبحثن عن أمان مفقود لأولادهن، في مشهد يعكس كيف تبدلت حياتهن بدرجة 180 درجة.
” كل حلقة من “بودكاست الخيمة” هي انتصار صغير على الموت والخوف. حين أسجل، ما زلت أسمع في رأسي صوت الصواريخ، وأتساءل: أين ستسقط القذيفة القادمة؟”
كانت مادلين الضيفة في الحلقة الأولى، حكت عن حياتها، عن النزوح والخسارة. ثم بدأت تلتقي الناس، تروي قصصهم، وتشارك ألمهم. اختارت أن تكسر القواعد، فلا استوديو مغلق، ولا أجهزة حديثة. كل ما تملكه هو كاميرا بسيطة، وصوت يحمل عبء آلاف الحكايات، وبعض الأصدقاء.
تقول مادلين:” نساء غزة هنّ القوة التي لا تنكسر. هنّ من يحفرن في الصخر لتأمين حياة لأولادهن، من يعجنّ ويخبزن على النار، من يغسلن بأيديهن، من يحاولن بناء أمان وسط عالم فقد معناه. لكنهن أيضًا مثقلات بالانتهاكات: لا خصوصية، لا استقرار، ولا أمان”.
تعيش اليوم مادلين في ظل الحرب أكثر من دور؛ الأم التي تعتني بابنتها، الزوجة التي تساند زوجها، الابنة التي ترعى والديها المسنين، والصحفية التي تسعى لتكون صوت من لا صوت لهم. هذا الدور المتعدد مرهق، لكنه في الوقت ذاته يمنحنها معنى وسط الفوضى.
بعد انتهاء الحرب، هناك أشياء كثيرة تريد فعلها. زيارة قبر أختها، الذي تأخرت في معرفته. أن تذهب إلى بيتها، إن بقي منه شيء، تقول: ” أريد أن أشم رائحتها في أغراضها، صورها، ملابسها. أريد أن أبحث عن بيت جديد، عن حياة جديدة، عن بداية تكون أقل قسوة”.
أكثر ما تريده هو أن تستمر في بودكاست الخيمة، أن توسّع المشروع، أن تجعله منصة لكل من فقدوا صوتهم. أحلم أن يصبح هذا البودكاست نافذة يرى العالم من خلالها معاناة غزة. العالم الذي لا يشعر بما نعيشه.
على الرغم من الخطر والخوف الذي يحيط بالصحافيين، تستمر مادلين لأنها تؤمن أن حكاية غزة تستحق أن تُروى. وأن سكانها لا تملك رفاهية النسيان، ولا رفاهية التخلي عن الأحلام، مهما كانت بسيطة.