حكايا في زمن الحرب.. نداء أبو عيطة: تواجه الحرب بإبرة وخيط
"ليس للحرب وجهٌ واحد، نحن نعيش حرباً أخرى داخل أنفسنا، جراحنا تظل مفتوحة، وذكرياتنا لا تنطفئ."
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
حكايا في زمن الحرب إعداد: شيماء مقداد
لم تكن “نداء” تتخيل يومًا أن حياتها ستتغير بين عشية وضحاها، وأن تجد نفسها منغرسة في مأساة لا تنتهي، تحمل أثقال الحرب بين ذراعيها كمن يحمل جبالاً فوق كتفيه. منذ اندلاع العدوان، كانت تعمل بلا توقف لتأمين المساعدة والدعم لأبناء شعبها، لكن الحرب أخذت منها الكثير، تمامًا كما أخذت من الجميع.
نداء أبو عيطة، 31 عامًا، أم لثلاثة أطفال، انطلقت بمشروعها الإنساني وواجهت الحرب والاحتياج بـ”إبرة وخيط” لمساعدة النازحين في غزة. تخصصت في صناعة الملابس الشتوية للأطفال من الأقمشة والبطانيات الثقيلة. تحدّت نقص الموارد وتحوّلت إلى حلول مبتكرة لتلبية احتياجات أهل غزة في برد الشتاء القارس، وسط حصارٍ خانق وحرب لا ترحم.
تقول: “نحن نحاول تجاوز الألم، لا نملك سوى تلك الأقمشة لنحيك منها دفئًا لأولئك الذين فقدوا كل شيء.”
قبل الحرب، كانت نداء تخطط لتوسيع مشروعها، وأسست معملًا غذائيًا معتمدًا ومرخصًا، لكنها لم تكن تعلم أنه سيتحول إلى ركام. تحاول الآن البدء من جديد، وتخلق فرصاً من قلب الموت، ليكون مشروعها محطة حياة ووسيلة للبقاء لأعدادٍ كبيرة من الأطفال والنساء الذين شرّدتهم الحرب.
لكن مع كل ذلك، لم تكن نداء محصنة من معاناة النزوح المتكرر، الذي أصبح جزءًا من حياتها. فقد تركت منزلها مرارًا وتكرارًا هروبًا من القصف الذي لا يرحم، لتجد نفسها في الخيام التي أصبحت مأوى لها ولأسرتها، واجهت الخوف المرض والجوع.
لحظات كثيرة اختلطت بها صور الحزن والوجع، كان الجوع يلتهم أرواح الناس ببطء. كانت نداء تتمنى لو كان لديها ما تقدمه لهم أكثر من الملابس الشتوية.
حين انقطعت الإمدادات الأساسية وتوقفت المساعدات، اضطرت نداء إلى تعديل آلات الخياطة، لتعمل عبر دواسات دراجات هوائية؛ فقد أصبح كل شيء في غزة يعتمد على الإبداع والتحدي فقط، لا شيء سوى ذلك.
“حين تخنقنا الحرب، نخلق طريقًا جديدًا للتنفس، نصنع من اللاشيء كل شيء.”
كانت نداء تخلق فرصًا للعمل وللحياة. أعادت تشغيل مشروع “إبرة وخيط” ، ليصبح مصدرًا للدخل لعشرات النساء النازحات، ووسيلةً لتحدي اليأس الذي يحيط بهن من كل اتجاه.
اليوم، تستمر نداء في عملها رغم كل ما مرّت به ولازالت تمر، ترى كل قطعة قماش على أنها ملاذ، وكل بطانية تُحوَّل إلى معطف تراه حياة تُعاد من جديد. بين أصابعها وأحلامها، تصر على الاستمرار، على ألا تترك شعبها وحيدًا في هذه المعركة التي لا تنتهي.
“شتاءُ النازحين قاسٍ، لقد سرقت الحربُ منا الكثير، لكننا لن نسمح لها بأن تسرق دفء قلوبنا.”
كل ما تطمح إليه نداء اليوم هو أن تنجح في إسعاد الناس، وأن تكون عونًا لمن حولها. رغم الظروف القاسية التي تعيشها، وحصار الحرب الذي أحاط بكل تفاصيل حياتها، بقيت قوية صامدة، وواجهت الصعاب بإصرارٍ لا ينكسر، وكانت السند الوحيد لأطفالها، حين أصيب ابنها البكر إصابة بالغة كتب الله له بعدها عمراً جديدا.
هي شابة مبادرة تخيط الجراح بحب، وأمٌّ تزرع الأمل في قلوب أطفالها، وامرأة تناضل من أجل مدينتها بكل امتيازاتها، لكنها ليست محصنة من الألم الذي يسري في كل زوايا المكان. تحدّت الانكسار، رفضت أن تنحني أمام الدمار، واستمرت في العطاء والعمل، بقلبها المليء بالعزم، وحلمها الذي لم يُخمده الخراب، لتحكي حكاية جديدة عن قدرة الإنسان على الصمود رغم كل شيء.