حكايا في زمن الحرب: يسري الغول.. حروف تصارع من أجل البقاء
"وتطلع الشمس، وشموس برتقالية كثيرة تحاصر البيوت الواطئة في مخيم الشاطئ، فالنار كحبة برتقال، والشهداء بلا رؤوس، والبيوت تقرر نيابة عن أصحابها عدم مشروعية نقل الأجساد إلى المقابر التي اكتظت بالقتلى"
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
إعداد: شيماء مقداد
هذا حال مدينة غزة، في أول أيام الحرب كما وصفها يسري الغول، الكاتب الفلسطيني ذو الـ 44 عامًا، من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، لم يكن يخطط ليعيش كابوس الحرب في يوم من الأيام.
كان يسري يحلم بأن يكون هذا اليوم بداية جديدة له ولعائلته، داخل بيته الجديد الذي قضى عامين كاملين في بنائه، وكان يراه ملاذاً من ويلات الزمن.
انتهى من بناء البيت قبل الحرب بيومين فقط، وقد كلفه جهداً ومالاً كبيرين، لكن ما حدث صباح السبت السابع من أكتوبر حول كل الأحلام إلى رماد، وبدلاً من الانتقال إلى بيته الجديد، وجد نفسه أمام خيارين: إما البقاء مكانه أو النزوح إلى المجهول.
“أن تقضي العمر مغتربًا، حرفة ترتضيها ولا ترتضيها، ولكنك اليوم تملك بين اغترابك والنخل خطوتك الملكية معناك.”
كان يتوجب على يسري اتخاذ القرار سريعاً، فبعد ساعاتٍ قليلة حلّ الجحيم في كل مكان، وبقي في حيرة من أمره “هل أفرّ إلى الجنوب، أم أبقى في الشمال الذي سكنته حروفي وكلماتي؟”، تساءل يسري وهو ينظر إلى بيته الجديد الذي كان على وشك أن يصبح أثراً بعد عين، فاختار البقاء، ليس دفاعاً فقط عن بيته وحياته، بل عن كل كلمة كتبها في قصصه ورواياته، عن أزقة المدن المنسية، وغزة التي تركها العالم وحدها.
لم يكن البقاء سهلاً، لكنه قرر أن يبقى، فاضطر للنزوح الداخلي من غرب المدينة إلى شمالها، ومن شمالها إلى غربها، تحت القصف المتواصل، في كل مرة يواجه الموت، في كل خطوة يخطوها كان احتمال النجاة ضعيفاً.
“القهر هو أن تعود بنفسك ألف سنة للوراء، تستيقظ لتحمل جالونات المياه، دون أن تعبأ بعمرك، وحين تنتهي من هذه المهمة؛ تخرج تحت صهد الشمس لتبحث عن بعض الحطب كي تشعل النار، لتطهو زوجتك الطعام، ثم تعود محملًا بالهزيمة.”
حكايا في زمن الحرب، تبدو الأيام كأنها لا تمضي أبدا، عقارب الساعة تتوقف، في لحظات الخوف يتجاوز صوت دقات القلوب صوت القصف، ومع ذلك يهرمُ المرءُ كثيراً، يشيبُ شعر رأسه، تذبل عيناه، ويذهب رنين صوته.
كانت الحرب اختبارا لكل حدود الصبر، والمعاناة اليومية أمرًا لا يمكن ليسري وعائلته احتمال، المياه ليست شحيحة فقط، بل غير صالحة للشرب، لكنهم كانوا مضطرين لاستخدامها، لا وقود لطبخ الطعام، فكانوا يبحثون عن الخشب والورق بين الركام لإيقاد النار، لم تكن الكهرباء تصلهم إلا نادرًا، فكان يُجبر على قطع مسافات طويلة جدًا ليجد مكانًا يشحن فيه هاتفه.
لم يكن يسري محاطًا بالموت والخوف فقط، بل فقد كل ما بناه أيضاً، منزله الجديد الذي كافح لبنائه لم يعد موجودًا، حتى بيته القديم دُمّر تماماً، لم يقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد أُصيب هو وابنه وابنته حين سقط عليهما جدار جراء القصف.
الأوجاع كانت لا تتوقف، فلم تكن الحرب تقتصر على المنازل والجدران، بل امتدت لتفصل بين البشر، وجد يسري نفسه محاصرًا لشهر كامل مع جزء من عائلته في مكان، بينما زوجته كانت في مكان آخر، غير قادر على الوصول إليها بسبب الحصار المفروض عليهم، كانت الدبابات وآليات الاحتلال تقف بينه وبين زوجته، مما زاد من شعوره بالعجز.
“القهر أن تبحث عن طرد غذائي، يحتوي على بعض علب التونة والبسكويت والسكر وأحيانًا الزيت، وقد كنت تشتري لبيتك كل ما يلزم، بما يكفي لعام وأكثر. لكنك اليوم تتوسل طردًا هنا أو هناك لأن أطفالك لم يعتادوا الهزيمة مثلك.”
حكايا في زمن الحرب، عانى شمال غزة من المجاعة لأشهر طويلة، ولم تنته المعاناة بعد، ففي رحلة البحث عن طعام للعائلة استنزف يسري روحه لمرات ومرات، أما أكثر المرات قهرا بالنسبة له، حين اضطر لأن يتوسل هناك وهناك بحثاً عن طرد غذائي لأبنائه، أو البعض من الدقيق لصناعة الخبز.
في لحظة من أصعب اللحظات، وقف يسري ينظر إلى أبنائه وهم يتضورون جوعاً. لم يكن قادرًا على توفير الطعام لهم، كان عليه أن يغامر بحياته لينجو بهم.
ذهب مع صديقه للبحث عن الدقيق في المنازل المهجورة، فعبرا من بين الأزقة والجدران المقصوفة، و تنقلا بين بيوت لا يعرفون أصحابها، هل استشهدوا، أم نزحوا إلى الجنوب فرارا من الموت، حتى وجد الصديقين بعضا من الدقيق، في منزل تقف الدبابات على مسافة أمتار منه، و في محاولة للنجاة ركضا بسرعة، وفوقهما طائرات الكوادكابتر تلاحقهما بالرصاص، حتى كتب الله لهما عمراً جديداً.
“الكتابة التي لا تأتي من الوجع لا تخرج من القلب ولا تصل إلى قلب القارئ وذهنه.”
رغم كل تلك الظروف القاسية، لم يتوقف يسري عن الكتابة، وجد أن الحرب أكبر ملهم للكاتب، إذ تستخرج منه كل مشاعر الألم، فتتدفق الكلمات منه بقوة.
كان يسري يكتب عن كل ما يحدث في غزة، يوثّق معاناة الناس، يقصّ حكاياتهم، ويُسجل الجرائم التي ترتكب في حقهم.
قبل الحرب بعامين، بدأ يسري بكتابة روايته “ملابس تنجو بأعجوبة” ، وانتهى منها خلال الحرب، وحين عاد لقراءتها من جديد، اكتشف حجم التشابه بين الرواية والواقع الذي يعيشه هو وكل سكان قطاع غزة.
لم يتخيل لحظة وهو يسرد تفاصيل من وحي الخيال أنها ستحدث بالفعل، تحدث في الرواية عن المجاعة، عن الخيام والنزوح وحجم الدمار، عن معاناة الناس داخل فصول المدارس التي نزحوا إليها، عن الاغتراب الثقافي والأخلاقي، وكل الأحداث التي تقع الآن، وكأنها كانت رؤى استشرفها من قبل.
يقول : “لا أعرف كيف حدث ذلك؟ وما هي الحالة التي جعلتني أخوض في هذا الجنون، ربما كما يقول أصدقائي إنني كنت كاهنًا أو راهبًا أو ممسوسًا بشيء من قبس المستقبل.”
كان يسري يشعر أحيانًا أن الحرب قد خطت بكلماته على الأرض، وأنه بكتابة روايته كان يتنبأ بمستقبل مأساوي، لكن تلك المأساة أصبحت واقعًا يعيشه الآن، ويشعر بثقله على روحه.
حين تُطرح عليه الأسئلة عن أمانيه، لا يطلب يسري سوى شيء واحد: “أن تنتهي الحرب فقط.” وعندما تنتهي، فإن أول ما يرغب في فعله هو أن يحتضن أصدقاءه الذين بقوا على قيد الحياة، أولئك الذين نجوا من هذا الجحيم.
يتمنى أن يعود للمشي في شوارع غزة التي حُرم منها بسبب القصف المستمر والخطر المحدق في كل مكان، يدرك أن هذه ليست النهاية، فالقصة ما زالت تُكتب بحروف من دم وألم وصمود.