رحلة العودة إلى غزة تقرير خاص:
بعد أكثر من 15 شهراً من النزوح القسري، بدأ آلاف الفلسطينيين رحلة العودة إلى ديارهم في قطاع غزة، في أعقاب إعلان وقف إطلاق النار. لكن العودة لم تكن كما توقعها كثيرون، فقد تحولت إلى اختبار قاسٍ للصبر والتحمل، وسط أوضاع إنسانية مأساوية جعلت الطريق أشبه برحلة موت بطيء امتدت لساعات طويلة، بلا أدنى مقومات الراحة أو الإنسانية.
طريق العودة شاق وطويل
مع الساعات الأولى لإعلان وقف إطلاق النار، ارتفعت آمال النازحين بالعودة إلى منازلهم، لكن سرعان ما اصطدمت هذه الآمال بواقعٍ مؤلم، حيث لم تكن هناك أي معلومات دقيقة حول آلية العودة، أو الطريق الذي سيسلكه العائدون، أو المدة التي ستستغرقها الرحلة. معظم العائلات غادرت أماكن نزوحها في وسط وجنوب القطاع نحو مدنها الأصلية دون أن تعرف ما ينتظرها على الطريق.
امتدت رحلة العودة عبر شارع صلاح الدين، مرورًا بمحور نتساريم، مع بعض العائلات ليومين متواصلين. آلاف العائلات، التي لم يكن لديها سوى القليل من الطعام والماء، عانت من نقص حاد في الاحتياجات الأساسية، خاصة مع انعدام أي مرافق عامة أو أماكن للاستراحة. لم يكن هناك سوى المنازل المدمرة على جانبي الطريق، في مشهدٍ يعكس حجم الدمار الذي حل بغزة خلال الأشهر الماضية.
ديانا أحمد، إحدى العائدات وصفت هذه التجربة قائلة: “لم يكن الأمر مجرد رحلة سفر شاقة، بل كان اختبارًا لمدى قدرتنا على التحمل. لم نجد مياه، لم نجد مكانًا لقضاء الحاجة، لم يكن هناك أي أثر للحياة سوى طوابير السيارات التي تتحرك ببطء شديد وسط ركام الحرب.”
الأطفال في مواجهة القهر والمعاناة
لم تكن هذه الرحلة قاسية على البالغين فحسب، بل كان الأطفال أكثر الفئات تضررًا. قضى الأطفال ساعات طويلة في سيارات مكتظة، دون مساحة كافية للحركة، وسط حرارة النهار وبرودة الليل، ودون أن يفهموا سبب هذا العناء.
تقول ديانا: “طفلتي الصغيرة كانت تسألني طوال الطريق: أين غزة؟ لماذا لم نصل بعد؟ كيف يمكن أن أشرح لها أن هذه هي الحرب؟ كيف يمكن أن أقنعها بأن العالم لايرانا سوى مجرد أرقام!”.
وفي مشهد آخر، كانت طفلة تعاني من إصابة في قدميها خلال الحرب تسببت لها في إعاقة، مما زاد من صعوبة الرحلة عليها. لم يكن هناك مكان مناسب لرعايتها أو حتى لقضاء حاجتها، واضطرت والدتها لحملها لمسافات طويلة. تقول الأم : “كانت تبكي من الألم، وكانت تبكي من الشوق إلى منزلها، إلى سريرها، إلى ألعابها. كل ساعة كانت تسألني: هل اقتربنا من البيت؟.”
نقطة التفتيش: اختبار الصبر والكرامة
بعد ساعات طويلة من المشقة، وصل النازحون إلى نقطة التفتيش الأخيرة، حيث كانت اللحظة التي انتظروها بشغف. هناك، التقطوا أنفاسهم، واستعدوا للعبور إلى مدينتهم التي حُرموا منها لأكثر من عام. لكن حتى هذه اللحظة، كانت مشاعرهم ممزوجة بالألم والخذلان.
تقول إحدى العائدات: “عندما عبرنا الحاجز، نظرت إلى الجنود المصريين الذين كانوا يرددون لنا: ‘الحمد لله على السلامة.’ بكيت كما لم أبكِ من قبل. بكيت لأنني شعرت للحظة وكأنني غريبة عن مدينتي، وكأنني بحاجة إلى إذن للعودة إلى بيتي. ”
وصول مؤلم.. ومدينة تغيرت ملامحها
عندما عبر العائدون آخر نقطة تفتيش، كان المشهد أمامهم أقرب إلى الصدمة. غزة التي تركوها لم تعد كما كانت، فالمدينة تحولت إلى كومة من الركام، والمعالم التي اعتادوا عليها لم تعد موجودة.
يقول محمد عبد الفتاح: “عندما دخلنا غزة، لم أتعرف على شوارعها. لم أجد أي شيء مألوف. كانت المدينة مظلمة تمامًا، بلا كهرباء، بلا حياة. كنا نبحث عن معلم واحد فقط يدلنا على طريق المنزل”.
وبعد ساعات من البحث، وصلت العائلات إلى منازلها – أو ما تبقى منها. لحظة الوصول لم تكن لحظة فرح فقط، بل لحظة انهيار كامل. البعض احتضن الجدران، والبعض بكى على الأبواب، وآخرون وقفوا مذهولين غير قادرين على استيعاب حجم الدمار من حولهم.
بداية معركة جديدة
رغم كل الصعوبات، كان العائدون يدركون أن العودة إلى غزة ليست نهاية المعاناة، بل بداية لمعركة جديدة من أجل إعادة البناء والاستقرار. المنازل بحاجة إلى ترميم، الشوارع مدمرة، والخدمات شبه معدومة، لكن الأهم من ذلك أن النفوس نفسها تحتاج إلى إعادة ترميم بعد كل هذا الألم.
يضيف محمد: “أدركت بعد هذه الرحلة أن أبسط الأشياء التي كنا نعتبرها عادية هي في الحقيقة نعمٌ عظيمة. أن تملك منزلاً، أن تجد سريرًا تنام عليه، أن تشعر بالأمان.”
بهذا، تظل قصة النازحين العائدين شهادة حيّة على المعاناة التي تحملها أهل غزة، وعلى صمودهم في وجه حربٍ لم تقتصر على القصف والدمار، بل امتدت إلى القلوب والأرواح، تاركة ندوبًا ستحتاج إلى وقت طويل لتلتئم.