مقالات الخامسة

زعيم أقوى من النظام: نرجسية ترامب وامتحان الديمقراطية

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

الكاتب: بسام زكارنه

منذ أن عاد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025 بدت أمريكا كمن تنظر في مرآتها ولا تتعرف على وجهها.

البيت الأبيض لم يعد بيت الدولة بل انعكاساً لرجلٍ يرى نفسه أكبر من مؤسساته وأهم من التاريخ الذي جاء به.
كل ما حوله يتشكل وفق مزاجه حتى الحقائق تُصاغ لتناسب صورته في المرآة.

ترامب لا يمارس الحكم بصفته رئيساً بل بصفته الذات العظمى التي يجب أن تُطاع.
في عهده لم تعد السلطة وسيلة لخدمة الشعب بل أداة لترسيخ الذات ، كل قرار يمر من بوابة غروره وكل موقف يُوزَن بميزان مصلحته الشخصية.
إنه لا يحكم عبر المؤسسات بل عبر الكاريزما ولا يقود بالعقل بل بالغريزة.
من حوله يعرفون أن الولاء له لا للدولة وأن الخطيئة الكبرى ليست في مخالفة القانون بل في جرح غروره.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

في الخارج كان العالم يراقب ويتأقلم.
قال نتنياهو خلال زيارته للكنيست قبل أيام بذكاءٍ بارد:

“دعوه يشعر بأنه محبوب وسنحصل منه على ما نريد” .
جملة تختصر فلسفة التعامل مع الزعيم النرجسي: لا تواجهه بالحجة بل دلّله بالمديح.
هكذا تتحول السياسة إلى علم نفس والدبلوماسية إلى لعبة مزاجية حيث الحب يُمنح لا لتحقيق السلام بل لضمان رضا الرجل الجالس في القمة.

وبين هذا وذاك برزت مبادرات تُقدّم على أنها خطط سلام لكنها في جوهرها فرض لرؤية واحدة.

الخطة التي طرحها ترامب قُدمت كـ«هدية دبلوماسية» براقة لكنها في الواقع إعادة تغليف للاحتلال الاسرائيلي وتبييض لسياساته و التي تسببت في تطهير عرقي و إبادة و قتل أطفال و تجويع و دمار واسع ، عُرضت في اجتماعات مليئة بالابتسامات الرسمية والتصفيق من قادة همهم كراسيهم لم يدرسوا نصها أو يفهموا تبعاتها على الأرض و جعلوا بصمتهم الوثيقة تبدو كخطة سلام بينما هي في الحقيقة تبرر استمرار الجرائم و الانتهاكات وغياب المساءلة عنها ، و لم تتضمن الخطة أي آلية للمحاسبة أو ضمانات للعدالة بل ركزت على تسويق الانتهاك وتحويل معاناة الناس إلى سلعة دبلوماسية وفي ذروة من السخرية الأخلاقية تُقدَّم الآن كخطة سلام ويُروّج لها لدى منظمات دولية قد تمنحها أوسمة عالمية—حتى جائزة نوبل للسلام—بينما الحقيقة تقول بصراحة: لو وُجّهت الجوائز وفق الاستحقاق الحقيقي لكتبت له جائزة «نوبل في الأجرام» .

الخطة لم تحمل أي تعويض حقيقي لأولئك الذين دُمّرت بيوتهم وحياتهم و لم تُقدّم آليات واضحة للمساءلة عن الجرائم التي تنتهك القانون الدولي بل وضعت العالم أمام واقع جديد: خارطة مصالح صمّمها الرجل لنفسه و للحرم نتنياهو متجاوزاً مؤسسات المجتمع الدولي متخطّياً مجلس الأمن والأمم المتحدة ليصبح هو المنفذ والراعي والمشرّع في آن واحد كل شيء فيها صُمّم على قياس السلطة والرغبة الاستعمارية و الصهيونية لا على قياس العدالة ولا على حجم الألم الذي خلفته السياسات نفسها.

الخارج خانع راكع و منشغل في قضاياه لكن في الداخل بدأت أمريكا تستفيق من سحر الزعامة إلى صدمة الواقع و في الثامن عشر من أكتوبر 2025 خرجت الملايين إلى الشوارع في مظاهرات “No Kings ” كانت اللافتات بسيطة: لا ملوك في الديمقراطية ، كان ذلك الصوت الشعبي تذكيراً بأن الدستور لا يحمي نفسه وأن الحرية ليست ميراثاً بل معركة تتجدد كل يوم كانت الجموع تقول: لا أحد فوق القانون لا أحد فوق الشعب.

لكن الخطر الحقيقي لا يقف عند حدود ترامب وحده فالنرجسية السياسية ليست مرض رجل واحد بل اختبارٌ للمجتمع كله:
هل يستطيع أن يفرّق بين الزعيم والدولة؟ بين الكاريزما والمبدأ؟ بين الصوت العالي والحقيقة؟
كل ديمقراطية تحمل في داخلها بذرة سلطوية تنتظر من يسقيها بالتصفيق والخوف.
إن ما يجعل الزعيم أقوى من النظام ليس قوته بل ضعف الآخرين أمامه.
حين تخاف المؤسسات و القيادات من المواجهة وتختار النخب الصمت باسم “الاستقرار” يبدأ النظام بالتحلل من الداخل ، الديمقراطية لا تموت بالرصاص بل بالتصفيق الطويل.
في الخارج يتحرك القادة الاوروبيون و حتى بقية قادة العالم بحذر فسياسة أمريكا لم تعد تُدار عبر المبادئ بل عبر مزاج رجلٍ يرى في كل نقد خيانة وفي كل اختلاف إهانة صار الحلفاء يدرسون وجهه قبل كلماته ويقيسون المصلحة بقدر ابتسامته أو عبوسه وهكذا تحوّل الاستقرار الدولي إلى رهينة مزاج.
الدرس المرّ هو أن المؤسسات مهما كانت متينة تضعف أمام عبادة الشخصية وأن الديمقراطية مهما كانت قديمة تحتاج إلى يقظة دائمة كي لا تتحول إلى طقوس بلا روح فحين يصبح الزعيم أقوى من النظام تتوقف الدولة عن أن تكون فكرة وتبدأ في أن تكون شخصاً .
ربما كان نتنياهو محقاً حين قال: “دعوه يشعر بأنه محبوب وسنحصل منه على ما نريد” و حصل على ما يريد لكن ما لم يقله أحد هو أن الديمقراطية إن أحبت زعيمها أكثر مما تحب مبادئها فإنها ستحصل منه على نهايتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى