سبعة وسبعون عاما من العزلة !
شبكة الخامسة للأنباء - غزة

كتب: زياد حلبي
يعيش المجتمع الإسرائيلي داخل بوتقة نرجسية مغلقة، معزولًا عن السياقات التاريخية والواقع الإقليمي. فالفرد الإسرائيلي، في وعيه الجمعي، لا يرى نفسه إلا كضحية دائمة في عالم معادٍ، دون أي إدراك لجذور الصراع أو مسؤوليته فيه. الأجيال الجديدة في اسرائيل ،لا تعرف شيئًا عن النكبة الفلسطينية، ولا عن القرى المهجّرة، ولا عن الشعب الذي اقتُلعت جذوره؛ فهذه الحقائق غُيّبت عمدًا من التعليم والإعلام، وحتى ما كان يُعرف بـ”اليسار” قد انزلق إلى شعبوية قومية لا تختلف كثيرًا عن اليمين.
في هذا المشهد، بات الخطاب التعبوي هو السائد، والحرب أداة ثابتة في الوجدان الإسرائيلي من باب أن ما لا يحلّ بالقوة انما يُحلّ بمزيد من القوة ، حيث تظهر استطلاعات الرأي ،منهجيا ، أن غالبية الإسرائيليين، خاصة الشباب، يؤيدون الحروب دون مساءلة، عاجزين عن ربط ما يجري بمسار طويل من الاحتلال والحصار والحروب فالسردية التي يحكيها الاسرائيليون لأنفسهم وللآخرين والتي برمجها الجيل المؤسس لإسرائيل كي تكون معزولة عن حقيقية الصراع وتبحث عن مسوغات توراتية من الاف السنين ، هذه السّردية والرواية لا تتسع إلا للشعب المختار لا الأغيار . وهنا تتجلى مقولة عالم الاجتماع بيار بورديو حول “الوعي المحدود بالمجال”، حين تُفقد القدرة على رؤية ترابط الأحداث ضمن سياقها الأوسع.
ومنذ السابع من أكتوبر، تتصرف إسرائيل وكأن الصراع بدأ في ذلك اليوم، متجاهلة قرنًا من التاريخ: من وعد بلفور إلى النكبة، ومن الاحتلال إلى الاستيطان. وهي لا ترى الفلسطيني إلا عبر “لحظة تهديد”، لا كإنسان له رواية وحقوق. ويعكس ذلك ما وصفه كارل ياسبرز بـ”الذنب الكاذب”، حيث يشعر المرء بالبراءة ما دام الآخر غير مُعترف بإنسانيته، هذا ما لمسته شخصياً في تغطية الحرب والاستماع إلى الاسرائيليين ، في اكثر من مناسبة ، حتى في مدن مختلطة كحيفا:” لا يوجد أبرياء في غزة يجب قصف الجميع” من اكثر العبارات التي سمعناها بما تحمله من تأييد لقتل وتهجير أهالي القطاع .
وهذا قادني إلى ما لخص به الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي طبيعة هذا الوعي المشوّه بقوله: “اولا :كل إسرائيلي يعتقد أنه ينتمي إلى شعب مختار، وأن له الحق في أن يفعل ما يشاء. وثانياً: في الاحتلال الإسرائيلي وحده، يؤمن من يحتل الأرض بأنه الضحية الوحيدة، رغم اغتصابه لحقوق شعب آخر. ثالثا : هناك عمل ممنهج ومستمر على نزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين.”
هذا الثالوث: التفوق المختار، والضحية الحصرية، وتجريد الآخر من إنسانيته — يشكّل البنية النفسية التي تسمح باستمرار الاحتلال دون مساءلة ذاتية أو تردد أخلاقي.
هذه “النرجسية” تنسحب أيضًا على سلوك إسرائيل الخارجي، إذ لم تحترم يومًا سيادة الدول المجاورة. منذ خمسينيات القرن الماضي تدخلت في مصر وسوريا ولبنان والعراق وتونس والسودان ودول اخرى وكان عندها مشكلة في تقبل قيام الدول المجاورة بعد الانتداب واليوم تتحرك ، بادوات عسكرية بالطبع ، في محيط رخو وسائل تتلاشى فيه حدود سايكس بيكو وتحاول اعادة صياغة حدود ومصالح وشكل المنطقة في العقود المقبلة. ، وها هي اليوم تواصل عملياتها في إيران ، تحت غطاء “الدفاع عن النفس”، وهذه ذروة ترسيم المنطقة من جديد .
لكن هذه الرؤية المنفصلة لا تمنح إسرائيل تفوقًا استراتيجيًا دائمًا. فكل محاولة لحسم الصراع بالقوة أعادت إنتاج أسبابه. إسرائيل تمتلك أدوات القوة،وتمسك بناصية العلم والاختراع والتجدد ، لكنها عاجزة عن قراءة منطق التاريخ البسيط ، ولا تزال أسيرة مرآة ترى فيها ذاتها ضحية أبدية.
الإصرار على العيش داخل بوتقة، دون اعتراف بالسياق أو مراجعة للذات، لا يمنح الحصانة بل يُقصر النظر. فالتاريخ لا يرحم من ينكر جذوره، ولا الواقع يُدار بالحشد وحده. وإن ظنّت إسرائيل أن بوسعها أن تبدأ الصراع من حيث تشاء، فالعالم – بما فيه من ذاكرةٍ ووعي متنامٍ – لا ينسى. وذات يوم، قد تجد نفسها محاطةً بجدرانٍ من الإدراك لا يمكن قصفها، وبأسئلة لا تصلح لها لغة الحديد، بل لغة الاعتراف.