شهود على الألم والموت: كيف يعيش صحفيو غزة بين مسؤولية إيصال الحقيقة ومعاناة الحياة اليومية
شبكة الخامسة للأنباء - غزة

شهود على الألم والموت.. تقرير خاص إعداد: وسام إسماعيل
في قطاع غزة، حيث لا يتوقف القصف ولا تنتهي المعاناة، يقف الصحفيون في الصفوف الأولى، جزءًا لا يتجزأ من مشهد الألم اليومي الذي يعيشه السكان. لا يملكون رفاهية الفصل بين قلبهم وعدستهم، ولا بين إنسانيتهم ومهنتهم، يخرج الصحفي من بيته وهو يدرك أن عائلته قد تودّعه للمرة الأخيرة. لكنه يصرّ على أن يحمل صوته وصورة ما يعيشه السكان من ألم إلى العالم، بين الخوف والواجب، يعيشون صراعًا يوميًا؛ كيف يكونون أبناءً وآباءً وإخوةً لأسر تنتظر عودتهم، وفي الوقت ذاته شهودًا على المأساة، ينقلون الحقيقة مهما كان الثمن.
في غزة يصبح الصحفي هدفاً لا ناقلاً للخبر
يعيش الصحفيون صراعاً قاسياً وألماً مستمراً، وفي هذا التقرير الذي أعدته شبكة الخامسة للأنباء، يروي الصحفيون تفاصيل حياتهم اليومية خلال الحرب على قطاع غزة، وما يواجهونه من معاناة وإشكاليات أثناء تغطيتهم الصحفية، وهم ينقلون صورة الألم التي يعيشها كل الغزيين، من فقدٍ موجع، وجوع ينهش الأجساد، وخوف يلازمهم في كل لحظة.
الصحافة في غزة ليست مهنة، بل مخاطرة يومية مع الموت حيث يواصل الصحفيين في قطاع غزة العمل في ظل المخاطر المحيطة بهم والتهديدات المستمرة، إذ يواجهون استهدافاً مباشراً يضعهم على مقربة من الموت في كل لحظة، فالاحتلال الإسرائيلي يتعمد استهدافهم بشكل ممنهج، ضارباً بالقانون الدولي وحقوق الصحفيين عرض الحائط، حيث تم توثيق استهداف أكثر من 247 صحفياً خلال تأدية عملهم، في محاولة لحجب الصورة وإسكات الصوت الفلسطيني، تحت ذرائع واهية لا أساس لها من الصحة.
وغالباً ما يخرج المتحدثون باسم الاحتلال بمبررات كاذبة لتبرير جرائمهم، عبر ربط الصحفيين بالفصائل الفلسطينية أو الادعاء بمشاركتهم في أعمال عدائية، لكن هذه الرواية تنهار أمام حقيقة أن الصحفيين الإسرائيليين أنفسهم يظهرون في الميدان مدججين بالدروع والمستلزمات العسكرية، وهو ما يكشف التناقض الصارخ ويفضح زيف ادعاءات الاحتلال.
دماء زملائنا الشهداء تدفعني للاستمرار
مع كل صباح يخرج الصحفي إبراهيم قنن مراسل قناة الغد في قطاع غزة من خيمة نزوحه وهو يودّع عائلته وكأنه لا عودة، حاملاً كاميرته ورسالة أثقلتها الدماء والدموع، بين أصوات القصف وانقطاع الاتصالات وضيق الإمكانيات، يبدأ رحلته اليومية في توثيق الاستهدافات ورصد الجوع والمعاناة، بينما يعيش تحت ضغط نفسي هائل واستهدافات متواصلة تطاله وزملاءه مباشرة.
يروي قنن تفاصيل لحظة إصابته في الأيام الأولى للحرب، حين خرج لتغطية الأحداث غرب رفح ففوجئ بآليات عسكرية تطلق النار عليهم، والقذائف تقترب بلهيبها المرعب، ويصف الميدان بأنه ساحة موت حقيقية، مشاهدها لا تُمحى، وأصعبها كان توثيقه استهداف زملاء صحفيين في مجمع ناصر الطبي على الهواء مباشرة، صورة بقيت محفورة في ذاكرته كجرح لا يندمل.
ورغم ثقل الألم الذي يحمله في قلبه وذاكرته، يصرّ على الاستمرار في أداء رسالته، ويقول: “أحياناً أفكّر في ترك العمل بسبب حجم المخاطر، لكن دماء زملائنا الشهداء ومعاناة الأطفال والنساء في غزة تدفعني للاستمرار، نحن نبدو أمام الكاميرا أقوياء، لكن بداخلنا وجع لا يوصف، ومع كل خروج للتغطية أترك جزءاً من روحي مع عائلتي، وأحمل الآخر لأوثّق الحقيقة، لأن صوت الناس وصورتهم أمانة في أعناقنا”.
“نحن صوت الضحايا… والخوف لا يفارقنا”
وتصف الصحفية نور السويركي مراسلة قناة الشرق، حالتها بعد أكثر 22 شهر من الحرب قائلة: “الصحفي يعيش بشخصيتين؛ شخصية الصحفي الذي يكافح لنقل الحقيقة والواقع الصعب وسط كل هذا الخوف، وشخصية الإنسان داخل بيته، حيث أبسط الأمور أصبحت شبه مستحيلة بسبب النزوح والمعاناة والجوع. بعد الاستهدافات الأخيرة نعيش حالة مزاج سيئة، لكننا نواصل دورنا لأن الصحافة ليست مهنة عابرة، نحن صوت الناس… نحن صوت الضحايا.”
تقول الصحفية نور السويركي: أكثر ما يهزني خلال التغطية هو مشاهد الأطفال ومعاناتهم، جثامين متحللة، أجساد مبتورة… صور لا يمكن أن يستحقها أي إنسان، ولا يمكن أن تُسمى إنسانية. كل لحظة في الميدان تحمل وجعاً أكبر من الذي قبلها، وكل مشهد يبقى عالقاً في الذاكرة لا يزول.”
وتضيف: “الرعب يلازمنا في كل وقت، ومع كل صوت صاروخ تنهال الاتصالات للاطمئنان علينا. نحن نخرج للتغطية وكأننا نودّع عائلاتنا للمرة الأخيرة، بسبب الاستهداف المتعمد للصحفيين، وبسبب قربنا المستمر من الموت، هاجسي الأكبر أن أموت بعيداً عن أولادي وأهلي، كما حدث مع زميلتنا الصحفية مريم أبو دقة، الحقيقة لا تموت، لكن الخوف ينهش أرواحنا في كل لحظة.”
ننقل معاناة غزة والموت يلاحقنا
يروي الصحفي هاني الشاعر، مراسل قناة الجزيرة في غزة، جانباً من معاناته اليومية خلال التغطية، قائلاً: “الاحتلال يتعمد استهدافنا كصحفيين؛ مئات منّا تعرضوا للقصف المباشر، دُمّرت مقراتنا ومكاتبنا ومعداتنا بالكامل، نعمل بلا إمكانيات تقريباً؛ الكاميرات والمايكات والسيارات غير متوفرة، وحالة النزوح المستمرة جعلتنا نتنقل أكثر من عشر مرات بحثاً عن مكان آمن نستقر فيه ونمارس مهنتنا، لكن الاحتلال يلاحقنا ويضيّق الخناق علينا في كل مكان.”
ويضيف: “نعيش مواقف لا تُحتمل، الانهيار النفسي يلاحقنا مع كل مشهد دموي نراه يومياً. نحاول أن نظل متماسكين لننقل صوت أهلنا الذين يواجهون الموت والجوع والنزوح، لكن الحقيقة أننا نعمل في بيئة كلها مخاطر؛ استهدافات متكررة، قيود تمنعنا من التغطية، ومشاهد مؤلمة ترافقنا حتى في أحلامنا.”
ويختم بنداء مؤثر: “العالم لا يتحرك بالمستوى المطلوب ولا يرتقي لحجم معاناة شعبنا، نحن بحاجة إلى وقفة جادة توقف هذه الانتهاكات بحق الصحفيين وبحق كل المدنيين، أوقفوا حرب الإبادة… أوقفوا شلال الدم في غزة… كفى كفى كفى.”
أعود من العمل مثقلاً بمشاهد لا تفارق ذاكرتي
الصحفي عمرو طبش كتب عن تجربته اليومية مع الخطر، وعبّر بكلمات مؤثرة عن حياته بين الموت والعمل، يقول: “أنا كصحفي في غزة أعيش يوميًا على حافة الموت، عندما أغادر منزلي للعمل أو لتغطية حدث ما، أودّع عائلتي وكأنني لن أراهم مرة أخرى… أخرج من البيت وأنا أحمل كفني على كتفي، لا أعرف إن كنت سأعود حيًا أم لا.”
يصف طبش الميدان بأنه ليس مجرد مكان للعمل، بل ساحة موت حقيقية، أصوات القصف تلاحقه في كل مكان، ورائحة الدم والبارود ترافقه كظل ثقيل لا يزول، ويقول: “أنا لا أغطي الأحداث فقط، أنا أعيشها بكل تفاصيلها، وأدفع ثمنها نفسيًا وجسديًا.”
وتزداد معاناته حين يعود إلى بيته مثقلًا بالمشاهد التي رآها، والتي لا تفارقه، ويصف المشهد: “أرى الأطفال الشهداء وكأنهم أطفالي، أرى الأمهات المفجوعات وكأنهن أمي… أعود مثقلاً بمشاهد لا تفارق ذاكرتي، لا أستطيع النوم، ولا أستطيع أن أشرح لأحد ماذا يحدث بداخلي.”
ويختم باعتراف صريح عن هشاشته كإنسان قبل أن يكون صحفيًا: “أنا أكتب الآن ليس لأُظهر قوتي، بل لأعترف بضعفي… هذه ليست مهنة عابرة، هذه حياة يومية مليئة بالوجع والمخاطر، وفي كل لحظة قد نصبح نحن الخبر، وتتحول عدساتنا إلى شاهد على موتنا.”
شهود على الألم والموت
على رغم كل المخاطر، يواصل الصحفيون في غزة عملهم، حاملين على عاتقهم رسالة نقل الحقيقة إلى العالم. يعيشون كل لحظة بين الخوف والواجب، بين مهنتهم وعائلاتهم، وسط نزوح متكرر وغياب لأبسط المعدات، وكل ذلك في ظل استهداف مباشر وحملات تحريضية مستمرة، ومع ذلك، يصرون على أن تبقى العدسة شاهدة، والقلم ناقلاً لصوت من لا صوت لهم.
الصحفيون في غزة ليسوا مجرد مراسلين، بل هم شاهد حي على المأساة الإنسانية، يشعرون بالقرب المستمر من الموت، ويعانون الضغط النفسي والجسدي يومياً، لكنهم لا يتوقفون، كل صورة، كل خبر، وكل كلمة ينقلونها تمثل صرخة أهالي غزة الذين يواجهون الموت والجوع والنزوح، ليظل العالم أمام الحقيقة مهما حاول الاحتلال طمسها.