مقالات الخامسة

صفحة من ذاكرة المستقبل “دولتين في وطن واحد”

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

الكاتب: عوني المشني

بشيء من الامل الذي يبدوا لاول وهلة كوهم عبثي تم بناء مجموعة دولتين في وطن واحد، فكرة نابعة من اليأس من حل الدولتين التقليدي والذي قتلته يد آثمة فسال دمه ما بين ساحة رابين في تل ابيب والمقاطعة في رام الله ، فكرة حاولنا ازالة الصدئ عنها بجهد وعناء ، كان كثيرا من الشك حول جدارة الفكرة له ، لكن في النهاية بدى للفكرة بريقا جميلا جذب العشرات واصبحت رؤية .

لم تكن الفكرة عبقرية بالمعنى السياسي ، ولا هي بالابتكار المثير ، العبقرية تتمثل في كونها من حيث يدري او لا يدري من قاموا بصناعتها انهم يزيلون اللبس النفسي والسياسي والاستراتيجي بين اكثر التناقضات اهمية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، التناقض بين مفهوم الوطن والدولة ، دولة أضيق من ان تتسع لوطن ، وحرية اكبر من حدود دولة وهوية تقفز عن حدود الجغرافيا ، كل تلك تحققت بالصدفة الضرورة. ترجمت بصياغات سياسية ركيكة ، لا تستطيع قراءتها في النص ولكنك تحسها إذا ما امتلكت خاصة وعي ما بعد النص .

الرؤية ليست سياسية بالضبط ، أقرب إلى وصفة لعلاج الأمراض النفسية الاجتماعية للشعبين ، تزيل المخاوف المتخيلة والمستمدة من هوس التاريخ ، وتعزز من دكتاتورية الجغرافيا قليلا لمقاومة تسلط التاريخ .

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

ولدت رؤية دولتين في وطن واحد على طريق الهروب من خيبة الفشل الذي لازم شعبينا عبر عقدين من الزمن المفاوض .

هي ليست قفز عن الواقع نحو احلام يقظة ولكنها ليست خضوعا لواقع مرير ومؤلم ومريع ، انطلقت من قاعدة المساواة الفردية والجماعية، احدثت توازنا بين الخصوصية الوطنية والمصالح المشتركة، اعادت ترتيب عناصر الواقع بطريقة مختلفة فحولت التحديات إلى فرص والمخاطر إلى مزايا ايجابية ، اقتربت من حل سياسي يخرج منها الشعبان منتصران دون هزيمة لاحد . هي ليست أحجية او لغز اسطوري ، انها تكثيف لتجربة طويلة من الصراع باستخلاص يغلب المستقبل على الماضي .

شروط تنفيذ هذه الرؤيا ليست تعجيزية ولا هي شروط مختلقة ، انها ببساطة عقول مفتوحة وتحرر من الكراهية وحرص على مستقبل الشعبين.

الرؤية ليست عاطفية ولكنها مشحونة بالإصرار على الحياة حذار من التفاؤل ، الرؤية ليست طبق من الحلوى نستطيع الاستمتاع به ، هي عملية نضالية صعبة ومتعبة ومريرة ، اكثر المصاعب وأعقدها ان تقتنع بها وتحول قناعاتك إلى التزام ، وان تصنع من التزامك مسار ، نعم انها تحتاج إلى قناعة ملتزمة فاعلة وهادفة ، وهذا امر ليس بالسهل ولكنه الأكثر جدارة هو التمسك به ، وهي عملية نضالية اساسها المساواة الفردية والجمعية ، وفي ظل مجتمع اسرائيلي يميني متطرف باغلبيته الساحقة فان النضال لتحقيق تلك المساواة عملية شاقة ، وتحتاج إلى ارادة صلبة ، انها سير على حبل مشدود ، مخاطر الوقوع في اليأس امرا ممكنا خاصة في ظل اجواء العنصرية والابادة الجماعية والتطهير العرقي ، من جهة اخرى فان تقع ضحية التفاؤل المفرط امرا ليس اقل خطورة.

قناعتنا بالرؤيا نابع من قناعتنا بحق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال ، قناعة تنطلق من مصلحة فلسطينية اولا وثانيا وثالثا وعاشرا ، قناعتنا بالرؤية نابعة من اهمية ان تكون استراتيجية فلسطينية ، ثابته وواضحة ووطنية وممكنة ، قناعتنا بهذه الرؤية نابعة من قناعتنا بالطريق الأقصر والاكثر امناً والأقل خسارة لتحقيق ثوابتنا الوطنية .

حتى تقرأ الرؤيا بطريقة مفيدة يجب ان تراجع تاريخ الصراع الطويل ، وتقرأ القناعات المقدسة للشعبين، وتقف عن اضرحة الشهداء وتستذكر بألم وحسرة معاناة اجيال من الشعبين وتنظر في صور مئات الالاف من الضحايا ، حذا ان تقرأ الرؤيا كرواية او خبر في صحيفة ، الرؤيا هي استلهاما لكل ذلك ، وهي احلاما معلقة على أشرعة المستقبل . اقرأها وضعها في سياقها في الصراع ، وحينها ستكون بعد القراءة اقل احباطا واكثر تفاؤلا واشد صلابة.

الرؤيا ليست لقطة فوتوغرافية للحظة، هي فيلم وثائقي طويل يكثف الصراع بكل ابعاده ويعيد صياغة المعادلات والعلاقات والأحلام ، هي هكذا وتقرأ معا وتفهم بشموليتها والرؤيا تحتاج إلى خيال سياسي .

ذات مرة ، وككل المرات ،يسألني من يختلف عني في اغلب الاحيان :هل انتم متصالح مع ذاتك ، مع قناعتك ، مع تناقضك الفكري ؟؟؟ وديع وغاضب وجذري وبرغماتي إشكالي وتوفيقي ، حدي ومتسامح ؟!!! اين تقع دولتين في وطن واحد بين تلك التناقضات التي تعيشها؟؟؟.

أنا كاي شخص ، لدي قناعات اعبر عنها بطرق مختلفة ، كل ما ذكرت تعبيرات عني في التعاطي مع قناعاتي ، أنا الفكرة التي اعتقد بها ، وما تبقى تعبيرات عن علاقتي بالفكرة ، الفكرة تغضبني وتجعلني أشكالي واحيانا متسامحا ، احيانا توفيقي واحيانا حدي، الفكرة هي الأصل وسماتي الشخصية تعبيرات جانبية.

لكن ليس هذا هو الموضع ، تداخل غير مبرر وصولا للموضوع ، اين دولتين في وطن واحد بين كل التناقضات هذه ؟!!!.

في الجوهر قناعتي ليست في دولتين في وطن بالتحديد ، قناعتي بوطن اكبر من حدود دولة ، وباستقلالية اكبر من اعتراف الامم المتحدة ، وبحرية تتجاوز عمري الزمني وتورث لأطفالي ، قناعتي مرتبطة بفكر إنساني يؤسس حريته واستقلاله ووطنه بدون التعارض مع انسانيته ، لهذا شاركت في صنع رؤية سياسية تستوعب قناعتي ، من هنا جاءت دولتين في وطن واحد كمنتح سياسي شاركت في نسج خيوطة .

لم تتغير قناعتي عبر عمري الذي فيه محطات فارقة كثيرة ، تغير الادوات ، لكن القناعة الراسخة ان حرية شعبنا واستقلاله يفترض ان تكون في سياق إنساني لا يمثل نقيضا للآخر المختلف ، حتى لو كان عدوا ، هذا ليس تسامح في البعد الوطني بل هو ايجاد صيغة يتماهى فيها الوطني والإنساني ، صيغة تتحقق فيها الانا الوطنية في سياق النحن الإنسانية بدون تناقض ، بدون التباس ، بدون مرارة .

تحقيق تلك الرؤيا ممكن بل ربما هو الممكن الوحيد المتبقي امامنا ، فالممكن هو اعادة تدوير الواقع لانتاج منتج جديد من نفس المركبات، وهذه هي رؤيتنا ، تعيد تدوير مركبات الواقع لتنتج مصالحة تاريخية ، هكذا حصل في جنوب أفريقيا ، في أيرلندا .

السؤال هل سيقبل الاسرائيليين ذلك ، دائما الطرف المتسلح بالقوة المفرطة يعتقد لاول وهلة انه يستطيع ان يحقق بمزيد من القوة ما لا يتحقق بالقوة ، ودائما يصطدم بجدار عظيم ، ودائما يستفيق من الصدمة على متغيرات تفقده قناعاته ، تلك الحرب الممتدة واحد وعشرون شهرا ليست حرب جيوش وعساكر ، انها حرب قناعات ، حرب إرادات، نحن في مرحلة بدأت تتشقق فيها جدران قناعات اليمين الإسرائيلي باحدث تغييرات استراتيجية من خلال الابادة الجماعية والتي هي منتهى القوة الغاشمة ، سقطت او تكاد سياسات التهجير، القتل بهدف التهجير ، التجويع بهدف التهجير ، الجنون بهدف التهجير ، سقطت تلك السياسة او تكاد . كان الثمن غاليا لسقوط تلك السياسة ، الشعب الفلسطيني دفع من دمه وجوع أطفاله اغلى الاثمان ، واسرائيل دفعت كل ما تبقى لديها من رصيد اخلاقي ومن مشروعيك ومن احترام.

الشعب الفلسطيني بقي ما بعد الحرب وبقي اصراره على التحرر والاستقلال وإسرائيل بقيت كدولة مجرمة وسياسة فاشلة وعار الابادة الجماعية يكللها.

بقيت ازمتها الاستراتيجية والتي لا مخرج منها سوى التسليم بالحق الفلسطيني ، لم يبقى لدى الاسرائيلي ما يفعله، فعل كل ما يستطيع وفي النهاية حسمت باريس القول “الاعتراف بالدولة الفلسطينية” باريس كانت الحكم الغير محايد تماما ، انتظرت ان تسفر الحرب عن تغيير استراتيجي ولكن التغيير الاستراتيجي الوحيد الذي حصل هو ان الابادة الجامعية لن تثني الفلسطينيين عن المضي في كفاحهم من اجل الحرية والاستقلال ، وبعد ربع مليون فلسطيني ما بين جريح وشهيد اصدرت فرنسا باسم كل الذين صمتوا عن الابادة الجامعية موقفها: الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو السبيل الوحيد لانهاء هذا الصراع.

نحن في دولتين في وطن ذلك رأينا هذا مسبقا وقبل هذه الحرب ، وحذرنا منها او من حروب اخرى اتية حتما ما لم يجري مقاربة هذا الصراع بطريقة تؤدي إلى انهاءه بطريقة تحقق متطلبات الشعب الفلسطيني العادلة . فرنسا ادركت هذا ، وعبرت باسم اغلب القوى الشعبية والسياسية في العالم عن ذلك .

دولتين في وطن واحد قدمت اليات تنفيذية لهذا الاستنتاج ، قدمته قبل الحرب ، واصبح ما قدمته قبل الحرب اكثر ضرورة بعدها .

وبعد … ماذا بعد ؟؟؟
وبعد وما هي دولتين في وطن واحد ؟؟؟ كيف استطاعت احداث هذا الاختراق ؟؟؟ تلك تفاصيل مهمة وضرورية ، بل هي الاهم ، لكنها تحتاج إلى مساحة اخرى ، مساحة في مقال آخر . وسيكون .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى