مقالات الخامسة

غزة في اليوم العالمي لحقوق الإنسان: عامان من القتل الممنهج والتدمير والتهجير

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

مصطفى إبراهيم

في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، تبدو غزة وكأنها تُرغم العالم على النظر في مرآة الحقيقة، مرآة تكشف حجم الفجوة بين الخطاب الأخلاقي والممارسة الفعلية التي تسمح باستمرار الإبادة. فبينما تتردد شعارات الكرامة والعدالة والمساواة، تحصي غزة أكثر من سبعين ألف شهيد ومئة وواحد وسبعين ألف مصاب، في عامين من القتل الممنهج والتدمير الشامل والاعتقال الجماعي وحرمان الإنسان من أبسط شروط الحياة. هذه ليست حرباً بالمعنى التقليدي، بل انهيار صريح لمنظومة حقوق الإنسان، على مرأى العالم وبتواطؤ صمته.

الحق في الحياة والسكن والمأوى تحول إلى كابوس يومي. يعيش أكثر من مليون نازح في خيام مهترئة لا تقي برد الشتاء ولا حر الصيف، بينما البيوت التي اقتُلعت من جذورها تقف شاهدة على استمرار سياسة إبقاء الفلسطيني مشرّداً في وطنه. وما زال العالم يتعامل مع إعادة الإعمار كصفقة سياسية لا كواجب قانوني وأخلاقي، وتستمر المساومات على مناطق “إنسانية” تفتقر إلى أي قدرة على إعادة الحياة. الشتاء القاتل يزيد المشهد قسوة، والمعاناة لم تتوقف منذ اليوم الأول للعدوان.

منذ بدء الهجوم، أصبح القطاع نموذجاً صارخاً لممارسة القوة بلا سقف. البيوت والمستشفيات والمدارس ومحطات الكهرباء والمياه وحتى المناطق التي أعلنتها إسرائيل “آمنة” لم تنجُ من القصف المباشر. الدمار لم يكن نتيجة ثانوية بل خياراً سياسياً يهدف إلى تفكيك المجتمع وتجريده من القدرة على البقاء. القانون الدولي الإنساني، الذي نشأ لحماية المدنيين، وجد نفسه معلّقاً وسط ركام المدن عاجزاً عن فرض أي حماية أو مساءلة.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

ولا تكتمل صورة الجريمة دون الحديث عن الاعتقال الجماعي والاختفاء القسري. آلاف الفلسطينيين جرى اعتقالهم دون تهم، وآلاف آخرون اختفوا قسرياً، لا يعرف أهلهم مصيرهم إن كانوا أحياء في السجون أو تحت الركام. ظروف الاحتجاز قاسية، وتوثيقات عدة تكشف عن تعذيب وإذلال ممنهج، وتحويل المعتقل إلى أداة تدمير لإرادة الأسير، وكل ذلك يُسوّق تحت شعارات “الضرورة الأمنية” بينما يُمنح الغطاء السياسي لمن يمارس هذه الانتهاكات، في مفارقة تكشف عمق التواطؤ الدولي.

مقالات ذات صلة

ويكتمل المشهد في ملف الصحة العامة، حيث يواجه المرضى والمصابون حرماناً متعمداً من العلاج والرعاية الطبية، بينما يعيش مرضى السرطان والأمراض المزمنة على بقايا جرعات دوائية محدودة، وفقد مئات منهم حياتهم نتيجة نقص الدواء. وتنتشر الأمراض والأوبئة وسوء التغذية وفقر الدم بين الأطفال، فيما تنهار كل منظومة صحية موجودة، لتتحول غزة إلى مساحة موت بطيء يطال المدنيين جميعهم.

ويتعمق المشهد المأساوي أكثر حين نصل إلى ملف التهجير ومنع إعادة الإعمار. حتى اللحظة، تُبقي إسرائيل على سياسات تهدف إلى تكريس واقع جديد في غزة، واقع بلا بيوت، بلا مأوى، وبلا قدرة على العودة والاستقرار. تعطيل إعادة الإعمار ليس قراراً فنياً أو اقتصادياً، بل هو امتداد للحرب نفسها، جزء من مشروع سياسي يهدف إلى دفع السكان نحو الخروج القسري عبر جعل الحياة في القطاع غير قابلة للعيش. أكثر من مليون فلسطيني يعيشون اليوم في خيام مهترئة وظروف قاسية لا تليق بالبشر، بينما يبقى الحق في السكن والمأوى، وهو الأساس في كل منظومة حقوقية، معلّقاً بين الركام والمعابر المغلقة.

إن هذا الواقع ليس مجرد أزمة إنسانية، بل هو هندسة قسرية للحياة الفلسطينية؛ عقاب جماعي تُمارس فيه الحرب بأدوات متعددة، من القصف والتجويع والحصار، إلى التشريد ومنع الإعمار والحرمان من العلاج، لتُعاد تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا بالقوة. ومع غياب المساءلة الدولية، يتحول صمت العالم إلى شريك فعلي في استمرار الجريمة، وتظل حقوق الإنسان مجرد خطاب بلا معنى حين يكون الضحية فلسطينياً.

اليوم العالمي لحقوق الإنسان بالنسبة لغزة ليس مناسبة احتفالية ولا ذكرى رمزية. إنه لحظة صادمة تكشف حجم الفجوة بين ما يدّعيه العالم وما يمارسه فعلياً، وتظهر أن حقوق الإنسان أصبحت امتيازاً انتقائياً يُمنح لشعوب وتُحجب عن أخرى، فيما يواصل الفلسطيني دفع الثمن الأكبر لصمت المجتمع الدولي.

ومع ذلك، تبقى غزة، رغم الجراح المفتوحة والركام والدمار، شاهدة على إرادة حياة لا تنكسر. الصمود هنا ليس شعاراً، بل فعل مقاومة يومي ضد سياسات تهدف إلى محو الوجود نفسه. وربما يكون هذا الإصرار على الحياة، وسط كل هذا الموت، هو آخر ما تبقى من معنى حقيقي لحقوق الإنسان في عالم يترك الضحية وحيدة أمام آلة الحرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى