مقالات الخامسة

في سياق ما يحدث من إبادة جماعية.. إسرائيل والحرب الصفرية!

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

م. عبدالله حجاج

ما زال صخب السؤال قائماً: لماذا كلّ هذه الدمار والقتل للفلسطينيين عبر سياسة التهجير والإبادة الجماعية، والتي لم يسبق لنا مشاهدة مثيلاً لها منذ نكبة 1948م؟

نعم؛ إنَّ إسرائيل ومنذ أن بسطت حركة حماس سيطرتها على قطاع غزة في العام 2007م، شنَّت أربعة حروب على القطاع، ناهيك عن التصعيدات والاغتيالات التي كانت تستهدف حركة الجهاد الإسلامي.

كانت إسرائيل تتعامل مع حركة حماس والفصائل الفلسطينية في القطاع بنظرية “قص العشب” أو “تقليص المخاطر”، وكان التقدير الأمني الإسرائيلي أن حماس والفصائل الفلسطينية لا تشكل خطراً وجودياً عليهم، لأنه وبالرغم من عمليات إطلاق الصواريخ المتفرقة أو أي عمليات أخرى تنطلق من القطاع، فقد كانت في مجملها عمليات محدودة، وكذلك كان الرد عليها، وقد استمر العمل بهذه السياسة لما قبل عملية (طوفان الأقصى) في السابع من أكتوبر 2023.

في ذلك اليوم، استيقظت إسرائيل على أكبر هجوم مباغتٍ تتعرض له منذ خمسين عاماً؛ أي منذ حرب السادس من أكتوبر 1973، إذ قامت كتائب القسَّام بإطلاق آلاف الصواريخ بشكل متزامن على معظم المدن والبلدات المحتلة، وتمَّ اجتياح مدن الغلاف مع قطاع غزة بمئات المقاتلين من نخبة المقاومة الفلسطينية، في مشهدٍ هزَّ أركان دولة الاحتلال، لتكون النتيجة في نهاية ذلك اليوم مقتل وإصابة واختطاف المئات من الجنود والمستوطنين.

مثَّل ذلك اليوم انقلاباً في رؤية إسرائيل لمشهدية الواقع مع حماس والفصائل في قطاع غزة، إذ أدركت إسرائيل أنَّ تقديرها الأمني للواقع العسكري في قطاع غزة كان خاطئاً، وأنَّ حماس والفصائل الفلسطينية في القطاع “تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل”، وهكذا بدأت حرب الإبادة ضد قطاع غزة.

تزَّعم نتنياهو ما ُسمي بـ”مجلس الحرب”، وتمَّ تشكيل حكومة من اليمين المتطرف، هدفها الرد على تلك العملية، بعدما كان التفكك في النسيج الاجتماعي والسياسي حول هوية الدولة (دينية أم علمانية؟) هو سيد الموقف.

ولعنَّا هنا نتذكر تصريحات نتنياهو بعد يوم السابع من أكتوبر، والتي خرج فيها بمصطلحات مثل “تحقيق نبوءة أشعياء” ومواجهة “العماليق” كما أسماهم، وهي مصطلحاتٌ توراتية، يخاطب بها الجانب الديني في الداخل الإسرائيلي.. صحيح؛ أنَّ هذا الخطاب ليس جديداً، فقد جرى تداوله مع بداية تأسيس هذا الكيان في 14 مايو 1948، حيث تمَّ استدعاء قصة داوود وجالوت، حينها خرج اليهود بسرديةٍ توراتية، وهي أنَّ دولة إسرائيل هي داوود الصغير مقابل العملاق جالوت؛ أي الجيوش العربية السبع التي وقفت في وجه إسرائيل، بينما كان الواقع هو أن جميع القوى الكبرى في العالم “العماليق” كانت تقف مع إسرائيل، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي اعترف رئيسها -آنذاك- هاري ترومان بدولة إسرائيل منذ اللحظة الأولى من إعلان تأسيسها، أما الدول العربية السبع فقد كانت ضعيفة ومفككة، ولم تتعافَ بعد من آثار الاستعمار البريطاني والفرنسي.

إنَّ “تحقيق نبوءة أشعياء” حسب وعد نتنياهو هو بمثابة إعلان واضح عن النيِّة الإسرائيلية، وهي السيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، كما ذكر نصَّاً “السيطرة على غرب نهر الأردن”؛ فنبوءة أشعياء (بحسب التوراة) تنص على أنَّ الشعب اليهودي بعد أن يعود إلى أرضه التاريخية -حسب زعمهم- سيكون له السيادة عليها كاملة “من الماء إلى الماء”.

نذكر أيضاً أنه ومنذ بداية الحرب، ظهر نتنياهو بوعيده الموجه لسكان قطاع غزة: “اخرجوا من بيتوكم”، وكأن الزمان قد استدار فرجعنا إلى البدايات، فنتنياهو ومعه حكومة اليمين المتطرف بهذا الخطاب تُعيد لأذهان الفلسطينيين مشاهد النكبة الأولى من جديد، وأن هذه المذابح وحرب الإبادة الجماعية المرتكبة اليوم ضد قطاع غزة، إنما هي تكرار لمشهد المجازر التي تمَّ ارتكابها في دير ياسين وكفر قاسم والطنطورة وغيرها، والتي أدَّت لتهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني من ديارهم، وتفريغ حوالي 450 قرية ومدينة من سكانها عام 1948.

يذكر التاريخ يومها استخدام الإسرائيليين مصطلح تردد في أدبياتهم “أرض بلا شعب”، وكان هذا المصطلح هو النية الصهيونية لتفريغ فلسطين من سكانها الأصليين، سواء بقتلهم أو تهجيرهم.

هذا الشعار الذي تم رفعه منذ البداية “أرض بلا شعب.. لشعب بلا أرض”، هو شعار صفري (Zero sum game) لا يقبل أي حضورٍ للآخر “إما نحن وإما هم”، علماً بأنَّ هذا الشعار تمَّ رفعه في وقت كان فيه الفلسطينيون يُشكِّلون الأغلبية الساحقة في أرض فلسطين التاريخية، وفي ظل واقعٍ كانت فيه شعوب الأمة العربية وجيوشها تظهر وقوفها إلى جانب الفلسطينيين، فما بالك اليوم حيث غاب الجميع فلا حس ولا خبر؟!

اليوم، وبعد مرور  75 سنة على النكبة الأولى، تأتي نكبة جديدة لتهجيرٍ جديد، وتفريغٍ جديد للسكان الأصليين، ليس فقط في قطاع غزة  المستهدف بشكل رئيس في هذه الحرب، بل في عموم فلسطين، فالحكومة اليمينية المتطرفة بزعامة نتنياهو اتخذت مجموعة من الإجراءات في الضفة الغريبة والداخل المحتل، للضغط على الفلسطينيين في كلِّ أرض فلسطين التاريخية، لاستكمال عملية التهجير التي لم تنقطع على مدى أكثر من سبعة عقود، فالتمييز العنصري ضد مليوني فلسطيني من عرب ال48، لم يتوقف ويزداد يوماً بعد يوم مع صعود اليمين المتطرف الصهيوني، والذي وصل الأمر ببعضهم للمطابة بطرد كل العرب الموجودين داخل إسرائيل.

أما في الضفة الغربية، فتوسع الاستيطان، وخنق الضفة بالحواجز وسياسة هدم البيوت بحجة عدم الترخيص، وإجراءات أخرى كثيرة تستهدف حوالي ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون فيها، بهدف الضغط وتضييق الخناق عليهم، وجعل الخيار الأسهل أمام الفلسطينيين ترك وطنهم والرحيل.

أما بالنسبة لمليونين وربع المليون فلسطيني في قطاع غزة، فالقتل والإبادة الجماعية وهدم البيوت ونسف الأحياء السكنية وتدمير المدارس والجامعات والمستشفيات والمصانع والمحلات التجارية وكل ما يمت للحياة بصلة، فهو السياسة الصهيونية الممنهجة لتهجير السكان وطردهم من أرضهم.

ختاماً.. يبدو أنَّ نظام الفصل العنصري ((Apartheid الذي تمارسه دولة الاحتلال إنما هو تطور طبيعي لفكرة “أرض بلا شعب”، وقد بدأت إسرائيل وحكومة اليمين الصهيوني المتطرف تعتقد بأنَّ الظروف الدولية والعربية المحيطة مثالية ومواتية، لاستكمال مشروعها الاستعماري بتهجير ما تبقى من الشعب الفلسطيني.

وبناءً على ذلك، لم تكن أحداث السابع من أكتوبر، سوى فرصة لانطلاق مخطط كان بالأصل موجوداً، وكانت تتعالى الأصوات خاصة من اليمين الديني المتطرف داخل إسرائيل، والمطالبة بأن تكون دولة إسرائيل دولةً نقيةً للشعب اليهودي، بدون مسلمين أو عرب!

وفيما يبدو من مشهدنا الحزين، أنَّ المسلمين والعرب قد تخلو عن فلسطين وتركوا أهلها لما ينتظرهم من مصير، ولم يعد لديهم في سياق العروبة والدين ما يمكن فعله لمواجهة المشروع الإسرائيلي الاستيطاني الاستعماري المدعوم أمريكياً وغربياً.

وعليه؛ يبقى السؤال الذي يطرحه المخلصون من رجالات هذه الأمة: هل هناك من أملٍ واعدٍ للفلسطينيين في أي مستقبلٍ أو حياة آمنة على أرضهم؟! أم أن التهجير والخروج من الأرض هو المصير الوحيد الذي ينتظرهم؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى