مقالات الخامسة

قصة حياة مندور: قصة جيل ثوري له وعليه

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

كتب: مهند عبد الحميد:

محمد مندور الطبيب النفسي والمثقف والمناضل المصري، الفارس الذي ترجل يوم 5 تشرين الأول، خلف إرثا زاخرا بقيم الاندفاع الثوري والعمق الإنساني والتضامن والمخاطرة والفداء. مندور ينتمي إلى جيل السبعينيات الذي رفض الهزيمة وأنظمتها وأسبابها، وأخذ مسؤولية التحرر على عاتقه بعيدا عن الاحتكار والوصاية التي فرضتها الأنظمة الشمولية اللاديمقراطية، وبعد أن أخفقت تلك الأنظمة في حل المسألة الوطنية وكرست بنية مستبدة وفاسدة لا تسمح بتبادل سلمي للسلطة. كان مندور أحد رموز النخبة الطلابية الثورية التي اتكأت على فكر يساري ثوري عارض المدرسة السوفيتية ورهاناتها على أنظمة ما يسمى التحول الاشتراكي، وترافق النهوض الطلابي الذي بدأ برفض هزيمة 67 مع نضالات عمالية، وحضور للمثقف والفنان المستقل عن السلطة، ليدخل المجتمع المصري في حالة من  الجدل السياسي والثقافي، بأفق التغيير.
يقول مندور في تأبين المفكر إبراهيم فتحي: إن أهم هدف التقت عليه تنظيمات اليسار الجديد، هو استرداد الطبقات الشعبية لا سيما الطبقة العاملة أدوات كفاحها كالأحزاب والنقابات والجمعيات والاتحادات الشعبية والمهنية التي جردها منها النظام الناصري وأجهزته الأمنية، أدوات تمثل مصالحها وتعالج إشكاليات حياتها، وتشارك في القرار وفي عملية البناء والتنمية. وكان المفكر فتحي قد شَخّصَ طبيعة النظام ودعا إلى انتقال راية النضال الوطني من رأسمالية الدولة وسلطتها البيروقراطية العاجزة إلى الطبقات الشعبية.
حفَّز الفكر الثوري النقدي الحراكات الطلابية والعمالية والثقافية الفنية بتقديمه مهمات وشعارات ملموسة، وبكشفه تناقضات السلطة الحاكمة التي قادت تحولات سياسية باتجاه علاقات تبعية جديدة، وتحولات رجعية داخل المجتمع. ولكن سرعان ما اصطدم النهوض الثوري بعجز الحركة الثورية في بناء أدوات كفاحها، بسبب قمع السلطة الحاكمة لكل أشكال التنظيم وللحراكات الجماهيرية، وبسبب ضعف خبرة اليسار الجديد في البناء وسيادة أشكال من التفرد وضعف أو غياب الديمقراطية. وعوضا عن محاولة حل هذا التناقض الداخلي، جرت مفاقمته ما أدى إلى تعطل الجهد والطاقة النضالية وتحولها إلى مواجهات داخلية ساهمت في تفكك أداة التغيير الأساسية ممثلة بتنظيمات اليسار الجديد، وفي التحول إلى مناضلين أفراد أو ضمن مجموعات صغيرة، أو انتقالهم للنضال في صفوف الثورة الفلسطينية ومؤسساتها، وكان مندور من ابرز الطاقات التي رفدت الهلال الأحمر الفلسطيني.
سنة 1986، كنا صحبة أطباء وطبيبة واحدة كانت أما لطفل بعمر 3 سنوات، لم نطق القهر والظلم والقتل والتشريد الواقع على المخيمات الفلسطينية في لبنان من كل جهات الأرض العفنة عرب وإسرائيليين، كابدنا صعوبات شتى حتى وصلنا صيدا حيث مخيما عين الحلوة والمية ومية وكانت حرب من الجو والبر والبحر على مخيمين من الصفيح وقليل من الإسمنت. دخلنا المستشفى البسيط الصامد وكان الجرحى يصرخون وكان صوت علي الحجار يناديهم «ما تمنعوش الصادقين عن صدقهم ولا تحرموش العاشقين من عشقهم».
من مستشفى الهلال الفلسطيني في القاهرة إلى مستشفيات الهلال في مخيمات لبنان إلى مستشفيات الهلال في قطاع غزة تنقل مندور مقدما نموذجا في العطاء والدعم وفي تخفيف الألم والمعاناة التي يتسبب بهما الاحتلال الإسرائيلي للشعب الفلسطيني المنكوب بأطول احتلال في العصر الحديث.
يقول مندور: «كنت مسؤولا عن عشرات مراكز الإسعاف والطوارئ من رفح جنوب القطاع إلى جنين شمال الضفة، «وكان علي العمل مع الفريق الذي شكلته من 24 شابا وشابة بالضفة والقطاع لاستيعاب الضغوط وانعكاساتها على المسعفين في محطاتهم وكان علي التواصل معهم بالراديو من رفح حتى جنين والتحرك متى لزم الأمر فضلا عن تنظيم مختلف الدورات من أجل زيادة معارفهم.. كانوا شبابا رائعين يتميزون بالرغبة العارمة في الخدمة، والقدرة علي الإصغاء جيدا، والرغبة العالية في التعلم لمواجهة الضغوط المتعددة   لا سيما القهر الذي يمارسه جيش الاحتلال على الحواجز العسكرية فيضرب ثقافة ووجدان مجتمع ذكوري، تلهمه البطولات».
ويضيف، سنة 2002 حين أعيد احتلال الضفة وحوصر أبو عمار بالمقاطعة وجرى تسميمه العام 2004 كلفني الصليب الأحمر الدولي، بصفتي طبيبا نفسيا، عمل بالهلال الأحمر الفلسطيني لمدة 16 سنة في لبنان ومصر، بتقديم الرعاية النفسية لضباط الإسعاف والطوارئ بالأراضي المحتلة. حين وصلت هناك – لإجراء برنامج لتخفيض الضغوط النفسية على ضباط الإسعاف والطوارئ Stress management program استقبلني البعض منهم بفتور إن لم يكن بامتعاض، قال أحدهم، أهلا بك يا دكتور إحنا (تمسحنا) «من تمساح»، قل لفتحي عرفات – رئيس الجمعية، «إحنا (إزلام) وبلاها هيك مصاريف ويدفعهم لنا مصاري» (نقدا). لم يقتصر دور مندور على الجانب المهني، فكان يهمه القرار السياسي ووجهته، ففي العام 2003 اقترح أن أذهب معه لزيارة الرئيس عرفات المحاصر في المقاطعة، استجبت فورا، وقد فوجئت بحرارة اللقاء وبحفاوة الرئيس به، وقد حول أسئلة مندور للاطمئنان عليه إلى الاستفسار عن صحة المناضل عمر محجوب وعن مصريين آخرين عملوا في الهلال وانخرطوا في مؤسسات المنظمة.
وسرعان ما تحول اللقاء إلى لقاء سياسي تحدث فيه الرئيس عن المؤامرة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني وعن الخذلان العربي وخاصة عندما وافق المؤتمرون على قرار شارون بعدم السماح له من المشاركة في قمة بيروت العام 2002. وأدلى مندور بدلوه، وكأنه عضو لجنة تنفيذية أو مستشار أول للرئيس.
في العام 2006، ترك مندور الأراضي الفلسطينية، ووقع عليه الاختيار من منظمة الصحة العالمية للعمل في دارفور/ السودان، مهمة لم يقبل بها سواه من المرشحين. قال مندور: كان من الصعب علي العيش بلا كهرباء ولا مياه للشرب ولا أشياء للشراء وفي درجة حرارة تناهز الخمسين درجة ولا يوجد فيها أي طريق معبد. تساءلت: أليسوا بشرا الذين يعيشون في دار فور وألم يعش زملائي في أرياف مصر في شروط مشابهة.
بقي مندور في هذه المهمة المعقدة المحفوفة بالمخاطر 5 سنوات وشهرا. شغل خلالها منسقا عاما لمراقبة حقوق الإنسان، وشغل منصب رئيس مكتب بعثة السلام وممثلا للامين العام للأمم المتحدة. لكن مهمته الطبية الإنسانية كانت الأهم. يقول مندور أثناء ذهابه إلى معسكر نازحين تعرض للهجوم: «اعرف مخاطر الغضب المحول للجموع الغاضبة، لكني أعرف أن واجبي إن لم أستطع إنقاذ حياة من قتلوا أن أنقذ المصابين دون استئذان أحد، فقط بالإخطار، دخل د. مندور المعسكر وسط متطوعين بحراسته، ومضى في إنقاذ الجرحى والتخفيف من آلامهم.
قصة حياة مندور هي قصة جيل بادر إلى التغيير وفشل، وما يعنيه الفشل من كم الأخطاء والنواقص وبخاصة في مجال الديمقراطية، لقد غابت الديمقراطية وغاب معها التجديد والتواصل مع الأجيال اللاحقة. لكن هذا الجيل ترك الكثير من قيم الشجاعة والتضحية والاعتماد على الذات وعدم الاستسلام للأمر الواقع وومضات من فكر وشغف المعرفة ورموز نضالية لا تنسى. تلك القيم لا تسقط بالتقادم ولا تلغيها الأخطاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى