لماذا سوّاق الأوتوبيس لعاطف الطيب الآن وغداً
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
كتب: تحسين يقين:
من أهم أفلام التحولات؛ فلم تكد تمر 7 سنوات فقط على سياسة الانفتاح حتى جاء الفيلم لا كي يرينا ما صرنا نحياه بين عامي 1974 و1981، بل لتصوير ما هو أسوأ إن استمر الحال، والنتيجة كما رأينا ونرى.
جميل وعي المخرج ابن الـ 35 عاماً حين أقدم على إخراج الفيلم في ظل ما كان يمكن أن يواجهه من بطش السلطة.
مرة أخرى سنجد أنفسنا متسائلين عن:
– خلود الروائع.
– وعن استعادتها.
بل لعلني ولعلكم، ولعل كل من يرجع إلى رواية قرأها أو فيلم شاهده، بعد مرور سنوات، سيجد أن شيئاً ما يربطه بما قرأ وشاهد، وصولاً إلى إعادة اكتشاف العمل الأدبي والفني، ثم إعادة اكتشاف نفسه، كيف ينظر بعد سنوات لما قرأ وشاهد. خلال ذلك، ربما يُسقط زمناً على زمن، أو يموضع نفسه والزمان مع زمان مرّ، وفي مجمل الحالة الاستعادية، فإن ثمة بحثاً عن إجابة لسؤال قديم، أو تفسير لمشهد؛ لقد توالدت التحولات منذ «الانفتاح» التي استمرت حتى اليوم وغد، والتي ما زالت تعصف بنا أفراداً وأقطاراً وأمة، وصولاً إلى فلسطين، التي لم تكن «استثناء»، حينما تم توريطها في سلوك نظام انفتاحي، واستهلاكي، فما جره السوق الحر أكثر فظاعة من سلبيات أي مقدمات لتسويات سياسية مفترضة مع الاحتلال، قصد منها ألا تصل للمدى العادل بإقامة الدولة وانسحاب الاحتلال. وعلى ضوء «سواق الأوتوبيس»، تكرر لدينا اجتماعياً واقتصادياً ما حدث من تحولات في القطر المصري، وأقطار أخرى، والأكثر سخرية أن ذلك حدث ويحدث ونحن ما زلنا تحت الاحتلال، لذلك ثمة ما يدفعنا أخلاقياً ووطنياً وقومياً وفنياً إلى تأمل جديد للفيلم.
ذاتياً، دوماً بقيت متذكراً مشهدَين هما: المشهد الأخير، ومبالغة الأسطى حسن في ضربه للص الأوتوبيس، وهو يصيح: «يا اولاد الكلب» مكرراً الضرب والشتم. أما الثاني فهو عندما زار أخته في دمياط لطلب المعونة لدفع أموال الضرائب المتأخرة على الورشة، وكيف قوبل بمنتهى نكران جميل الحاج سلطان، الذي آوى الجميع بعد حرب العام 1967 في بيته، فبدلاً من تقديم يد العون راح الزوج على بصر زوجته، أخت حسن، يبتزه من أجل شرائها، فيقف حسن مقابل البحر التي يعلو بأمواجه في مدّ بمواجهة بصره واقعاً وقلبه وعقله رمزاً.
وذاتياً، حزنت على طلاق الأسطى حسن من ميرفت، وحزنت أيضاً لرحيل الحاج سلطان بعد تأمين المبلغ المالي.
أما السؤال الذي حمله الفتى الذي كنت عام 1985، حين عرض الفيلم تلفزيونياً، (عرض الفيلم في السينما عام 1982) فهو: لم بالغ الأسطى حسن، سائق الأوتوبيس، في ضرب اللص كل هذا الضرب؟
لم يعرض التلفزيون هذا الفيلم سوى مرات معدودة، وأظنني رأيته بعد ذلك بخمس سنوات، ليتكرر التساؤل نفسه: لم كل هذا الضرب؟
حين كبرت، حللت هذا المشهد دون أن أراه ثانية، لكنني عدت مؤخراً من خلال اليوتيوب، لأشاهد الفيلم، متذكراً ذلك الفتى الذي كنته، ومتذكراً ما خبرته من سنوات دراسة بشكل خاص في مصر، بين عامَي 1988 و1992، كان قد مرّ على عرض الفيلم 6 سنوات، و3 سنوات لي على مشاهدته، حيث وجدت نفسي هناك على ضفاف النيل.
40 عاماً منذ أن تم تصوير واحد من أهم أفلام السينما المصرية وثامن أهم فيلم في قائمة المائة فيلم طبقاً لترشيحات النقاد بعد أفلام «العزيمة، والأرض، والمومياء، وباب الحديد، والحرام، شباب امرأة، وبداية ونهاية» ورقم 33 في قائمة أهم مائة فيلم عربي.
قام الفيلم على حدث تعرض ورشة الحاج سلطان للإغلاق، بسبب تراكم الديون، التي خطط لها زوج ابنته عوني، الذي آواه وشغّله في الورشة وزوجه ابنته، ليفاجأ الأسطى حسن بما تعرضت له الورشة، التي كان قد تركها لخلاف مع والده، والذي يعمل سائق أوتوبيس نهاراً، وسائق تاكسي ليلاً، لتحسين حالة أسرته الاقتصادية، وهو الذي خبر 4 حروب: اليمن وهزيمة 1967 وحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر حيث العبور. يلجأ لأخواته، فيفاجأ بنكران الجميل، ما عدا أخته وفاء وزوجها الذي كان معه في الجيش، ويستمر حسن في تدبير مبلغ المال اللازم لفكّ الحظر عن الورشة، وحين يؤمّن المبلغ، يموت الحاج سلطان.
سياسة الانفتاح
باختصار، سيصعب أن نضيف حتى القليل؛ فما كتب من روايات بدءاً بنجيب محفوظ عن الانفتاح، من خلال «يوم قتل الزعيم» لنجيب محفوظ 1981، ومروراً بالعديد من الروايات، خاصة تلك التي تحولت إلى أفلام ذات اتصال جماهيري واسع، تحدثت إنسانياً ومجتمعياً عن أثر الانفتاح الاقتصادي على مجمل الحياة والسلوكيات، والتي بدا أمرها مثار تساؤل، بسبب حالة التغيير بما يقترب من الزاوية 180 درجة.
لذلك فإن ردود فعل معظم الشخصيات كانت تنطلق من سيكولوجية الخلاص الفردي، حتى غدا الحاج سلطان وورشته رمزاً عميقاً للوطن الذي يتعرض لاستلاب وسرقة، ولم يكن «حرامي الأوتوبيس» الصغير إلا رمزاً للصوص كبار.
لذلك بدأنا من النهاية، من خاتمة الفيلم: «يا أولاد الكلب» مكررها، ومكرر ضرباته العنيفة للحرامي في الشارع بعد أن أمسك به، على وقع موسيقى «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي»، حيث كانت لخلفية المشهد رمزية كبيرة وجريئة، تمثلت في مبني الحزب الوطني الحاكم.
ولربما يمكن وضع هذا الفيلم أيضاً ضمن سينما العنف، في سياق أفلام عاطف الطيب، منها على وجه الخصوص فيلم «التخشيبة» عام 1984 من بطولة نبيلة عبيد.
وهنا، لربما جرى عتاب في ذات الحاج سلطان، (مصر) كأنما يلوم ابنه الأسطى حسن، وما يمثله من قوى شعبية أصيلة ووطنية آثرت الابتعاد عما يحدث ويتم التخطيط له:
«لو كنت فضلت معايا ما كانش ده حصل»!
وهنا يأتي حسن لكن متأخراً لحماية الورشة بدلالاتها الحيوية والبقاء، حيث لا ينفصل البقاء القيمي عن البقاء الاقتصادي، وهو منطق وفاء حسن ومع من وقف معه لصون كرامة الحاج سلطان: أخته وفاء وزوجها والمحامي (خدما معاً في الجيش) والكمساري الشاب الذي يقدم لحسن كل ما استطاع «تحويشه» لأجل الخطبة.
وهنا تظهر الشخصيات على حقيقتها الشكسبيرية إن جاز التعبير، من خلال ردود فعلها، فهذا أبو عميرة الخمسيني الذي اغتنى من التجارة بالمخدرات، يعرض المبلغ المستحق للضرائب مقابل الزواج من ابنة الحاج سلطان الطالبة في الثانوية العامة، وهذا البرنس زوج أخته في بورسعيد يتحجج بأن أمواله في السوق، أما زوج أخته في دمياط، فلا يقل نكرانا للجميل.
ثمة ما نجده من تناقض وبالتالي الانفصال ما بين ميرفت وزوجها حسن، التي تحتج على نيته بيع التاكسي، رابطة ذلك بالطلاق، فيكون رد فعله هو طلاقها، قائلاً لها: إنه إن باع التاكسي أو لم يبعه فهي طالق. في المقابل نجد الوصل بين حسن والكمساري، الذي منحه المال قائلاً: «خطبت أختك أو ما خطبت الفلوس دي للورشة».
تكمن مأساة حسن ورفاقه ووطنه، بأنه في أسوأ الكوابيس ما كان يتوقع، بأنه بعد أن اختبر 4 حروب، ونجا منها، يجد نفسه في حرب مفاجئة لم يحسب لها حساباً، حين يتم طعن والده (الوطن) من أقرب الناس.
كان لاختيار المكان دلالة في التصوير، كون بورسعيد كانت تنحاز للقيم، ثم تغيرت الأحوال.
إخراج
بدءاً بموسيقى سيد درويش، الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية، وزحمة الكوبري، والتدافع على أبواب الأوتوبيس، وانتهاء بمشهد ضرب اللص على وقع موسيقى بلادي بلادي لك حبي وفؤادي. وحليم والناي.. بخلفية بناية الحزب الحاكم، استطاع المخرج أن يعرض التأثير السلبي على القيم موجهاً سهام نقده للنظام السياسي.
كان لسكوت الركاب عن اللص دلالة لسكوت الشعب، وهذا نقد حادّ للجمهور أيضاً.
كذلك يمهد المخرج بإشارات نقدية كعدم رضاه عن حماته التي لا تشبع من الشراء، المرتبط بالاستهلاك.
كان لاختيار وقوف الحاج سلطان معنى مقابل أبو عميرة، حين صورت الكاميرا من مسافة قصيرة جعلته أكبر شكلاً في الحجم والدلالة.
من ناحية أخرى، ومن ناحية ضميرية، استخدم عاطف الطيب التصوير من أعلى لأخواته وأزواجهن وهم جميعاً في حالة جشع وطمع ونكران الجميل. (يذكرنا فيما بعد بما أبدعه داود عبد السيد في رسائل البحر)
كذلك في تصوير التناقض، من خلال مشهد الطلاق، الذي ظهر كمشهد مسرحي في ظل تركيز الكاميرا عليهما وظلهما في المرآة.
نجح المخرج هنا في جعل الممثلين/ات روافع عالية لفكرة الفيلم، من خلال استخراج طاقة إبداع مضاعفة من طاقم التمثيل.