محاولات المصالحة الوطنية: مراجعة نقدية في عمق الانقسام الفلسطيني
شبكة الخامسة للأنباء - غزة

بقلم هاني المصري
منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في 14 حزيران/يونيو 2007 حين نفذت انقلابا، فيما سُمي منها بـ”الحسم العسكري”، دخلت الساحة الفلسطينية في حالة انقسام سياسي وجغرافي ومؤسسي غير مسبوقة مختلفة عن الخلافات التي كانت موجودة قبل ذلك حيث لم تعكس صراعا وتنافسا بين سلطتين متنازعتين وعلى القيادة والقرار والتمثيل . لكن هذا الانقسام لم يكن وليد لحظته، بل كانت جذوره تمتد عميقًا في التاريخ الحديث للحركة الوطنية الفلسطينية، وبخاصة منذ نشأة حركة حماس كفرع من جماعة الإخوان المسلمين ذات المشروع الإسلامي العابر للحدود، الذي كانت فلسطين بالنسبة له جزءًا من قضية أشمل.
رفضت حماس منذ تأسيسها الانضمام إلى منظمة التحرير، رغم العرض السخي الذي قدّمه لها الزعيم ياسر عرفات في لقاء الخرطوم عام 1990. ومع أن العلاقة بين الحركتين سارت بشكل متوازٍ قبل أوسلو، إذ ضربتا في نفس الاتجاه، فإن التباين ظهر بوضوح بعد توقيع الاتفاق، إذ كانت حماس تسعى لتشكيل إطار بديل أو موازٍ للمنظمة.
في آذار/مارس 2005، وقّعت الفصائل الفلسطينية، بما فيها حماس، “إعلان القاهرة”، الذي تضمّن اتفاقًا على مشاركة الحركة في الانتخابات المحلية والتشريعية، وانضمامها إلى لجنة تفعيل منظمة التحرير. وقد أخبرني خالد مشعل في لقاء جمعني به بدمشق، أن حماس تخلت حينها عن فكرة تشكيل بديل للمنظمة، بعد أن اصطدمت هذه المساعي برفض عربي وإقليمي ودولي واضح. ما شجّع حماس على الانخراط في النظام السياسي الفلسطيني هو إدراكها لأزمة السلطة بعد اغتيال ياسر عرفات، وتعثّر خيار أوسلو، وانسداد أفق المفاوضات وإدراكها لأهمية البعد الوطني الفلسطيني أكثر من السابق.
عام 2006، فوضت حماس منظمة التحرير والرئيس محمود عباس بالتفاوض عبر موافقتها على “وثيقة الأسرى”، بل منحت عباس ضعف المدة التي طلبها لمواصلة المفاوضات. وقبل ذلك، وافقت حماس على تهدئتين بهدف إنجاح جهود عباس، ثم اعتمدت حكومتها العاشرة برنامجًا يعلن الاستعداد لاحترام (وليس الالتزام بـ) التزامات المنظمة، كرسالة تطمين للمجتمع الدولي، ووافقت لاحقا على اعتماد المقاومة الشعبية. هذا التحول لم يكن فقط نتيجة تطورات داخلية، بل جزءًا من رهان حماس على أن يتم التعامل معها كجزء من “الإسلام المعتدل”، في ظل تمييز أمريكي بين هذا التيار وبين “الإسلام المتطرف” الذي تمثله القاعدة وداعش.
لكن كل ذلك لم يكن كافيًا لتجنيب الساحة الفلسطينية الانقسام، الذي كانت بوادره تتضح في غياب التوافق على القواعد الحاكمة للمشاركة السياسية، وانعدام الاتفاق على برنامج وطني مشترك. التقدير السائد آنذاك كان أن حماس لن تفوز في الانتخابات، وبالتالي لم يتم التشدد في إلزامها ببرنامج المنظمة. غير أن فوزها المفاجئ دفع السلطة والأجهزة الأمنية إلى حالة من التردد: قبول شكلي بالنتائج، ورفض فعلي لها، ما خلق ازدواجية في المؤسسات، وساهم في انهيار تجربة الشراكة سريعًا.
تم تكليف إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة، وهو قرار حكيم ومسؤول، إلا أن السلطة تصرفت بعد ذلك على أساس أن الحكومة لن تصمد طويلًا. اتُّخذ قرار غير مدروس بمطالبة موظفي السلطة بعدم الالتحاق بأعمالهم في غزة، ما زاد من ترسيخ الانقسام المؤسسي. ثم جاءت حكومة الوحدة الوطنية دون الاتفاق على برنامج سياسي أو قواعد للشراكة، ما جعلها ضعيفة ومهددة بالانهيار منذ اليوم الأول.
ما غاب – ولا يزال غائبًا – هو التوافق على “برنامج الحد الأدنى” الذي يعكس القواسم المشتركة بين مكونات الحركة الوطنية. فالشعب الفلسطيني يخوض مرحلة تحرر وطني ضد مشروع استعماري استيطاني إحلالي لا يعترف به كشعب، ويرفض الحد الأدنى من حقوقه، ولا يقبل بحل وسط، بل يعمل على تصفية القضية الفلسطينية برمّتها، لذا هو بحاجة لتشكيل جبهة وطنية عريضة تحكمها قواعد العمل الجبهوي، ولا يجب القفز المخل والتعامل مع الوضع الفلسطيني باعتباره دولة مستقلة تحكمها قواعد واحكام الدول المستقلة، فالديمقراطية التوافقية هي التي تناسب الوضع الفلسطيني.
مؤسسات الدولة بدأت تتفكك، وظهرت قوى أمنية موازية تتبع كل طرف، وبدأ كل جانب يستعد للحسم. وقد سمعت شخصيًا من مسؤولين أن هناك توجهًا لإسقاط حكومة حماس في أيلول/سبتمبر 2007، وهو ما دفع الحركة إلى استباق الحدث بالسيطرة على غزة، في انقلاب لا يمكن تبريره، وإن كانت الملابسات التي أدت إليه تفسّره وتخفف من خطورته، وربما تبرر وضع كلمة “انقلاب” بين قوسين.
منذ ذلك الحين، توالت الاتفاقات والحوارات، وأبرزها اتفاق القاهرة عام 2011، ثم اتفاق الشاطئ عام 2014، لكنها جميعًا إما لم تُنفذ، أو نُفّذت جزئيًا ثم انهارت.
لقد حدث تطورا مهما أدى إلى تغيير ملموس في حماس هو سقوط تجربة الاخوان المسلمين في مصر وعدة دول عربية في مرحلة ما سمي الربيع العربي، وهذا ساهم في تبني وثيقة سياسية عام 2017انهت فيها علاقتها مع الإخوان المسلمين ولم تعد فرعي لها في فلسطين بل احتفظت بالبعد الفكري الإخواني وهذا يختلف عن العلاقة العضوية السابقة، وترافق ذلك مع نجاح قيادات جديدة في حماس أبرزها يحيى السنوار تميزت بتغليب البعد الوطني على الإخواني وابدت استعداد لإقامة وحدة وطنية تتخلى فيها عن السيطرة الاحادية على السلطة في قطاع غزة، وتميز القيادة الجديدة بانفتاح كبير على مصر وايران، ولعل التبني الواضح لبرنامج الدولة الفلسطينية على حدود 1967 أكبر دليل على هذا التغيير، وتواصل التغيير وتبلور في تفاهمات جبريل العاروري عام 2020 والتي ساهمت بالباطل صفقة القرن وسمحت باتفاق وافقت فيه حماس على المشاركة في انتخابات في قائمة واحدة تحصل فيها حركة فتح على 51% من المقاعد وعلى أن يكون محمود عباس هو مرشح توافقي للرئاسة ولكن المعارضة الداخلية داخل فتح وحماس والاهم المعارضة العربية والاقليمية والامريكية والاسرائيلية لهذا الاتفاق ادت إلى احباطه، على أن يتم الاحتكام للانتخابات، التي لو عقدت لما كنا في الوضع الذي نحن فيه اليوم، ولكن الرئيس قام الغائها نزولا عند ذات الاسباب التي حالت دون تطبيق تفاهمات الرجوب العاروري، وهي تفاهمات هامة كان ينقصها الاتفاق أو استكمال الاتفاق على برنامج الحد الادني وعلى استراتيجيات تطبيقه.
ويمكن تلخيص أسباب الفشل المستمر في النقاط التالية:
1. البيئة الخارجية: الاحتلال الإسرائيلي شجّع الانقسام واستثمر فيه من خلال أشكال عدة منها تمكين عشرات ملايين الدولات من الوصول الى غزة رغم الحصار الخانق الذي حول قطاع غزة أطول وأسوأ سجن ، وهدّد السلطة في كل مرة اقتربت فيها من الوحدة. كما لعبت المحاور العربية والإقليمية دورًا سلبيًا في تغذية الانقسام، حين راهنت الاطراف الفلسطينية عليها او خضعت لها.
2. تشكل مصالح داخلية: نشأت بنية سياسية-اقتصادية ثقافية أمنية بعد عشرات السنين من الاحتلال وتشابك العلاقات والمصالح والأسواق والارتباط التبعي للاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الاسرائيلي، وبعد سنوات طويلة من الانقسام قائمة على استمرار الانقسام، و خلقت طبقة مصالح تخشى الوحدة لما ستسببه من فقدان للنفوذ والثروة والمواقع.
3. استقطاب ثنائي حاد وتغييب قطاعات وتجمعات واسعة: لا أحد يمتلك أغلبية ثابتة وقادرة على الحسم، والفصائل الأخرى ضعفت، ولم تنشأ قوى ثالثة قادرة على كسر الاستقطاب أو تقديم بديل وطني جامع، وهذا يتطلب سعي بناء لكسر الاستقطاب الثنائي من خلال تشجيع بناء تيار او تيارات ثالثة تعكس مختلف التوجهات القائمة والمحتملة في الشعب الفلسطيني. ومن اهم النواقص التي كانت في جولات الحوار التمثيل المحدود للشباب والمرأة وللشتات وأماكن اللجوء، وهذه الثغرة يجب ملئها في أي حوارات قادمة.
4. أوهام الرهان المتبادل: كل طرف راهن في لحظة ما بل في مختلف سنوات الانقسام على انهيار الطرف الآخر أو رضوخه، واستمر هذا الرهان الخاطئ لسنوات طويلة دون جدوى، رغم أن كل طرف من مصلحته عدم هزيمة او غياب الطرف الآخر لانه يساعده في الكفاح الوطني لانجاز الحرية والعودة والاستقلال..
5. غياب رؤية واضحة للحوار: غُيّب النقاش حول البرنامج الوطني إذبدون الاتفاق على الاهداف الوطنية في هذه المرحلة وكيفية تحقيقها لا يمكن أن يستمر ويصمد أي اتفاق للوحدة الوطنية، فالبرنامج هو المفتاح السري للوحدة، وهو غيب لصالح تقاسم الوظائف والمحاصصة الفصائلية، وتم تهميش القوى المجتمعية والشرائح الحية في المجتمع من شباب ونساء ونقابات وجامعات وشخصيات وطنية اعتبارية ومستقلة والشتات وبلدان اللجوء، وغيب الحوار حول ضرورةةبلورة رؤية شاملة جديدة ينبثق عنها استراتيجيات جديدة بعد ان وصلت الاستراتيجيات المعتمدة الى طريق مسدود، فالمفاوضات فشلت فشلا ذريعا والمقاومة لم تحقق التحرير.
6. كانت حماس تعطي الاولوية في الحوارات والاتفاقات لبقاء سيطرتها الإنفرادية على السلطة في القطاع والحصول على مكاسب اضافية من السلطة والمنظمة، واولويتها السعي للحصول على رواتب الموظفين، بينما كانت السلطة في الضفة اولويتها استعادة سيطرتها على القطاع بدون مشاركة حماس او بدون مشاركة حقيقية لها، لا بالسلطة ولا بالمنظمة.
وهذا يجعل من أهم الدروس المستخلصة لنجاح الوحدة انها يجب ان تقوم على أساس المبادئ والأهداف والمصالح وتوازن القوى، بحيث يخرج الجميع منتصرا بدون غالب ولا مغلوب.
ومن اهم الثغرات التي ادت إلى عدم نجاح اتفاقات المصالحة عدم وجود ارادة سياسية وعدم توفير مشاركة شعبية تقوم بحمايتها وتوفير أدوات تنفيذها.
إن ما هو مطروح من تصور للمصالحة في ظل الواقع الراهن يبدو غير قابل للتحقق ما لم تحدث تغيرات جوهرية على صعيد الإرادة السياسية الفلسطينية وقيام تحرك شعبي فلسطيني دائم ومتراكم، وعلى الخارطة الفلسطينية و الإقليمية، والتوازنات الدولية. فالمطلوب ليس فقط اتفاقًا جديدًا، بل إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني وأدواته وأولوياته، على قاعدة التحرر والوحدة والشراكة، وليس على قاعدة التفرد أو الهيمنة أو الكوتا، وبعيدا عن التخوين والتكفير واحتكار الوطنية والدين والحقيقة وعن الاقصاء والتفرد.
فالمطلوب وحدة على اساس شرعية وطنية شعبية فلسطينية اولا وأساسا وشرعية عربية واقليمية ودولية ثانيا بدونها لا يمكن للوحدة أن تحلق وتطبق على أرض الواقع.
فعلى سبيل المثال المرسوم الرئاسي الاخير بخصوص انتخابات المجلس الوطني تم بشكل انفرادي وبدون مشاورات وطنية، ويخالف قرارات صادرة عن المجالس الوطنية ويقفز عن الظروف الراهنة خصوصا جريمة الابادة ومخططات الضم والتهجير التي تحتاج أن تعطى الاولوية، وانها لا توفر ظروف مناسبة الان وحتى نهاية العام الحالي لاجراء الانتخابات ما يفتح الطريق لتأجيلها مرة اخرى او للجوء للتعيين بشكل فئوي انفرادي وبدون توافق وطني، وتضمن بنود من شانها أن تقصي معظم القوى والفئات والافراد وخصوصا مطالبة كل من سيشارك بالانتخابات أن يلتزم ببرنامج منظمة التحرير والتزاماتها، في حين تم الاتفاق الوطني سابقا على الالتزام بالقانون الاساسي المعدل ووثيقة الاستقلال والنظام الاساسي للمنظمة، وهذا مناسب تماما بدون اضافات
.وفي هذا الصدد هناك حاجة ملحة لإعادة صياغة الميثاق الوطني لأن مكانته القانونية والسياسية غامضة وغير محسومة بعد ان شرع في تغيير العديد من مواده بدون استكمال العملية القانونية، بحيث لا أحد يعرف او يحسم هل لدينا ميثاق وطني ام لا.
واذا لخصنا متطلبات قيام الوحدة
نجد :
رؤية شاملة ينبثق عنها برنامج واستراتيجيات جديدة وقيادة واحدة
إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير استنادا على الإطار القيادي المؤقت بعد توسيع تمثيله بناء على توافق وطني لفترة انتقالية لحين اجراء الانتخابات باسرع وقت ممكن.
حكومة وفاق وطني
وحدة القرار والسلاح في المؤسسات في المنظمة والسلطة بدون المساس بحق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال بالاشكال كافة التي يجيزها القانون الدولي، وعلى أساس أن المقاومة اسلوب لتحقيق الاهداف وتخضع للاستراتيجيات الموحدة ولقرار المؤسسات الوطنية والقيادة الموحدة.