شبكة الخامسة للأنباء - غزة

مشروع تهجير قسري بواجهة مدنية… تقرير خاص إعداد: سهر دهليز
في ظل الحرب القاسية والحصار الخانق الذي ينهش قطاع غزة بلا رحمة، تتزايد مشاعر اليأس والاختناق لدى آلاف العائلات التي فقدت بيوتها وأحبّاءها، وتعيش على هامش الحياة بلا مأوى ولا أفق.
تحت وطأة الموت اليومي والجوع والنزوح، لم تعد الهجرة مجرّد خيار، بل باتت تمثل لدى كثيرين محاولة للنجاة بأي ثمن، بحثًا عن حياة آمنة ولو في آخر الأرض.
في هذا المناخ الإنساني المنهك، برزت جهات مشبوهة مثل ما يُعرف بـ “مؤسسة المجد أوروبا”، لتتسلل من بين أنقاض الألم، وتستغل حاجات الناس وضعفهم، وتقدّم الهجرة كطوق نجاة.
التهجير الناعم تحت غطاء إنساني
هذه المؤسسة ظهرت فجأة، بلا تعريف قانوني ولا غطاء رسمي. وقد روّجت لمسارات سفر تمر عبر معابر يتحكم بها الاحتلال، ما يكشف – وفق معطيات متزايدة – عن تورط مباشر في مشروع تهجير منظم، يستهدف تفريغ القطاع من سكانه تحت غطاء “المساعدة الإنسانية“.
إن ما يحدث ليس مجرد سفر عابر،بل هو إعادة إنتاج لأدوات التهجير القسري الناعم، في سياق أوسع من الحرب، عنوانه الأكبر: تفكيك المجتمع الفلسطيني، ونقل المعركة من ساحة القصف إلى ساحة اقتلاع الإنسان من أرضه، تحت غطاء “رغبة مُفترضة” في الهروب.
تُعد ما تُعرف بـ”مؤسسة المجد أوروبا” جزءًا من مسار يُوصف بـ”التهجير الناعم“، حيث تُستخدم شعارات ومصطلحات إنسانية لتغطية عمليات إخلاء قسري ممنهجة. وقد أثارت أنشطة هذه المؤسسة انتقادات حادة من نشطاء حقوقيين وفلسطينيين، معتبرين أنها تمثل محاولة مقنّعة لإفراغ قطاع غزة من سكانه، عبر الضغط المباشر أو من خلال خلق بيئة طاردة تدفع الناس للهجرة.
شكوك حول هوية القائمين على المؤسسة
يشير الموقع الرسمي للمؤسسة إلى أرقام تواصل مربوطة بأسماء أولية فقط، دون بيانات تعريفية واضحة، ما يثير الكثير من الشكوك حول مصداقية هذه الجهات وإمكانية كونها وهمية. ورغم ذلك، أفاد عدد من المواطنين الذين تواصلوا مع المؤسسة عبر الرابط الإلكتروني، وآخرون خرجت عائلاتهم مؤخرًا، بأن أحد المروّجين المعروفين باسم “م.ص” – شاب من سكان مخيم النصيرات وسط القطاع – كان من أوائل من خرجوا من غزة عبر تنسيق مباشر مع هذه الجهة إلى إحدى الدول الآسيوية قبل عدة أشهر.
تفاصيل مثيرة حول آلية التهجير
روى أحد المتواصلين مع ما تُعرف بـ”مؤسسة المجد أوروبا” تفاصيل تجربته مع المؤسسة لشبكة الخامسة للأنباء، كاشفًا عن معلومات تعزز الشبهات حول طبيعة عملها. واختار المُتحدّث استخدام اسم مستعار “سامي”، حرصًا على فرص خروج بعض أفراد أسرته.
قال “سامي” إنه تعرّف على نشاط المؤسسة من خلال عائلة تم إجلاؤها إلى إندونيسيا قبل أشهر، وبدأ لاحقًا إجراءات التسجيل عبر رابط تم تداوله بين الأهالي. وأكد أن جميع أفراد أسرته المسجلين تجاوزوا سن الستين، مضيفًا أنه تواصل مع شخص يُدعى “م.ص” – من الدفعة الأولى – بعد أن وجد رقمه منشورًا على الموقع الرسمي للمؤسسة.
وأشار إلى أن العملية توقفت بعد سفر الدفعة الأولى لمدة ثلاثة أشهر، ما أثار القلق بين المسجلين. بعضهم سحب الأموال التي دفعها (1400 دولار أمريكي)، في حين نجح آخرون، بينهم أصدقاء له، في مغادرة غزة فعليًا.
رفع التكلفة ومخاطر قانونية
لاحقًا، أعلن “م.ص” عن انطلاق الدفعة الثانية، ورفع تكلفة المشاركة إلى 2700 دولار للفرد، مع طلب تحويل المبلغ لحسابه البنكي. رفض “سامي” ذلك بسبب الشروط الجديدة، أبرزها اشتراط وجود أطفال دون سن 15 عامًا، وهو ما لا ينطبق على أسرته.
وأكد أن هذه الآلية تنطوي على مخاطر قانونية كبيرة، إذ تمنع السلطة الفلسطينية إصدار أو ختم جوازات سفر عبر هذه القنوات، كما أن الجانب الإسرائيلي لا يختم جوازات السفر الصادرة عن السلطة، ما يجعل العودة إلى غزة شبه مستحيلة، ويُبقي العملية خارج أي إطار قانوني معترف به.
اختتم “سامي” حديثه بالإشارة إلى أن المؤسسة تتواصل مع المسافرين في الليلة السابقة للسفر، حيث يُطلب منهم التجمّع في الخامسة صباحًا قرب نقطة جنوب قطاع غزة، قريبة من مقر الصليب الأحمر، ليُستكمل التنسيق لاحقًا مع الجيش الإسرائيلي الذي يُشرف على العملية.
تهجير مشبوه تحت ستار إنساني
مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة أكد على أن ما تُعرف بمؤسسة “المجد أوروبا” نفذت عمليات سفر بدأت من داخل الأراضي المحتلة عبر معبر كرم أبو سالم، مما يؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي وفّر لها الغطاء اللوجستي لاستغلال الكارثة الإنسانية في غزة ودفع السكان نحو التهجير القسري.
وأوضح في تصريح خاص لشبكة الخامسة، أن معلومات وتقارير إعلامية وحقوقية تشير إلى أن المؤسسة يقودها شخص إسرائيلي يحمل جنسية إستونية، ويعمل بتنسيق مباشر مع إدارة الاحتلال، في محاولة لتسويق الهجرة كخيار “طوعي”.
وأضاف الثوابتة أن غياب الأوراق القانونية، وإخفاء الهوية، واستخدام أدوات تضليل رقمية، كلها مؤشرات على أن المؤسسة تعمل بغطاء أمني وليس بصفتها جهة إنسانية.
وبيّن أن هذه الأنشطة تُعد جزءًا من مشروع إسرائيلي منهجي لإعادة تشكيل الواقع الديمغرافي في غزة وفتح قنوات تهجير قسري غير معلنة تستغل الظروف الكارثية التي يعيشها السكان.
تحقيق رسمي وإجراءات عملية
وأكد الثوابتة أن الجهات الحكومية في غزة بدأت باتخاذ إجراءات عملية تجاه ما تُعرف بمؤسسة “المجد أوروبا”، أبرزها فتح تحقيق رسمي، وإحالة أي نشاط مشابه للمساءلة القانونية، إلى جانب التنسيق مع المؤسسات الحقوقية للتحذير من شبهات اتجار بالبشر. كما تم إصدار تحذيرات للمواطنين بعدم التعامل مع جهات مجهولة والعمل على معالجة الملف باعتباره تهديدًا للأمن المجتمعي.
وأشار إلى أن الاحتلال يستغل تدهور الوضع الإنساني واستخدام أدوات الضغط مثل الجوع والقصف والنزوح، لخلق بيئة قهرية تدفع الناس نحو مغادرة غزة. واعتبر أن توقيت نشاط المؤسسة مرتبط بهذا المخطط وليس مجرد صدفة.
ودعا الثوابتة المواطنين إلى الحذر، وعدم الوقوع في فخ الجهات غير الرسمية، مطالبًا بتحقيق دولي في هذه الأنشطة، وختم برسالة واضحة: التمسك بالأرض هو الرد على محاولات التهجير، وغزة ستبقى رغم الحرب والحصار.
تحذير قانوني وغياب التوعية
وحذر الباحث القانوني مصطفى إبراهيم من “مؤسسة المجد” وأنها ما هي إلا غطاء قانوني لمشروع إسرائيلي ممنهج لتهجير الفلسطينيين من غزة قسرًا. المؤسسة تسهل خروج السكان عبر مسارات غير قانونية تبدأ من مطار النقب وتمر بمعبر كرم أبو سالم المحظور، وصولًا إلى دول أفريقية كنقاط ترانزيت.
وأوضح إبراهيم في تصريح خاص لشبكة الخامسة للأنباء، أن هذه العمليات مخالفة للقانون الدولي ويتم تمويلها من الفلسطينيين أنفسهم، ما يجعلها استغلالًا لمعاناتهم. مطالبًا بفتح تحقيق شفاف ومتابعة قانونية جدية، و أن حماية المواطنين من هذه المؤسسات المشبوهة مسؤولية رسمية تقع على عاتق السلطات الفلسطينية في غزة والضفة.
وأشار إلى أن غياب التوعية والقانون يسمح بانتشار نشاطات مشبوهة للهجرة عبر قنوات غير رسمية، مما يثير تساؤلات حول خروج أشخاص دون إجراءات قانونية. الحرب والانقسام يدفعان الناس للهروب، ما يزيد من استغلال معاناتهم.
رغم خطورة التهجير القسري، يرى إبراهيم أن الأفراد لهم حق اختيار مصيرهم، مشددًا على ضرورة رفع الوعي، توفير المساعدات، إعادة الإعمار، وتأمين الأمن للحفاظ على السكان في غزة.
واختتم بالقول إن الهجرة الواسعة غير ممكنة، وأن الفلسطينيين الذين غادروا ينتظرون فتح معبر رفح للعودة لوطنهم الذي لا وطن لهم غيره.
المجد أوروبا
ويذكر أن موقع جمعية المجد تأسست عام 2010 في ألمانيا، وأن لديها مكاتب في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية. إلا أن تحقيق صحيفة “هآرتس” يُظهر أنه لا في ألمانيا ولا في القدس الشرقية مسجَّلة جمعية بهذا الاسم، وأن موقعها الإلكتروني أُنشئ فقط في شهر فبراير من هذا العام. كما أن الروابط المؤدية إلى صفحاتها على شبكات التواصل الاجتماعي لا تقود إلى أي صفحات حقيقية. كذلك يتباهى الموقع بتقديم مساعدات لمتضرري الزلزال الكبير في تركيا عام 2023 وللاجئين من الحرب الأهلية في سوريا – لكن دون عرض أي أدلة على ذلك.
إلى جانب المعلومات عن نشاط الجمعية، يظهر في الموقع أيضاً تفاصيل عن اثنين من “مديري المشاريع” – عدنان من القدس، ومعياذ من غزة. وقد نشر معياذ في حسابه على إنستغرام صورة تظهره يصعد إلى طائرة رومانية غادرت في مايو إلى إندونيسيا. وكتب في المنشور: “غادرت غزة، أرض الحرب والجوع، ولن أعود. طالما استمر القتل، تُغتال العقول ويُدفن الشرف… السلام على غزة من البعيد”. ولم تتمكن “هآرتس” من العثور على أي معلومات عبر الإنترنت عن عدنان.
لا يظهر في موقع الجمعية أي معلومات تعريفية عن إدارتها، ولكن في نسخة قديمة منه ظهر شعار شركة مسجَّلة في إستونيا تُدعى Talent Globus. وتفصّل صفحة في الموقع “شروط الهجرة الطوعية من قطاع غزة”، وتذكر صراحة أن شركة Talent Globus هي التي تنظّم تلك المجموعات. وبحسب الموقع، فإن الشركة تعمل ظاهرياً في مجال الاستشارات وتجنيد القوى العاملة، إلا أن الموقع يعرض صوراً عامة مأخوذة من الإنترنت، ورقم هاتف غير صحيح، وعناوين في إستونيا ولندن وقطر.
ويُظهر البحث في السجل التجاري الإستوني أن شركة Talent Globus أسسها قبل عام تومر يانار ليند. وبحسب السجل التجاري في بريطانيا، فقد أسس ليند خلال العقد الماضي أربع شركات في البلاد؛ ثلاث منها لم تعد نشطة. وتشير وثائق الشركات إلى أنه من مواليد 1989 ويحمل الجنسية الإسرائيلية والإستونية. وفي صفحة لينكدإن الخاصة به ذكر ليند أنه يساعد الغزيين. ولم يُنكر ليند تورطه في تنظيم خروج الغزيين، لكنه رفض الكشف عن الجهة التي تقف وراء الجمعية. وقال: “لست مهتماً بالتعليق في هذه المرحلة، ربما لاحقاً”.





