مصطفى اللداوي: إقناعُ الفلسطينيين بالهزيمةِ حلمٌ صهيونيٌ بعيدُ المنالِ
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
يشن جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة خصوصاً وعلى المقاومة الفلسطينية عموماً، حروباً عديدةً ويفتعل معهم معارك كثيرة، ويجتاح المناطق ويعيث فساداً في المدن، ويقتحم المخيمات والبلدات الصغيرة والكبيرة، وينفذ مهاماً أمنية خاصة، ويقوم بعمليات اعتقالٍ واسعة، منظمة وعشوائية، ويغتال القادة والمسؤولين، والعامة والمواطنين، ويصادر الأرض ويغتصب الحقوق، ويدمر المباني ويهدم المساكن، ويقتلع السكان ويطرد المواطنين، ويفرض عليهم عقوباتٍ قاسيةً وأحكاماً جائرةً، ويحرمهم من مقدساتهم ويحول دون صلاتهم، وينازعهم على مواطن سجودهم، ومقامات علمائهم وقبور آبائهم.
يظن العدو الإسرائيلي بعد كل حربٍ وعدوان، ومعركةٍ واجتياحٍ، وغارةٍ وقنصٍ، واعتقالٍ واغتيالٍ، أنه حقق نصراً كبيراً، وسجل إنجازاً نوعياً، وحَيَّدَ قياداتٍ فاعلةً وشخصياتٍ خطرةً، وأصاب أهدافاً استراتيجية، ألحقت أضراراً فادحةً ببنية المقاومة، ودمرت مخازنها ومصانعها، وعطلت قدراتها وأفشلت مخططاتها، ويعلن قادة جيشه وكبار ضباطه، ورئيس حكومته ووزراؤه عبر وسائل إعلامه، أنهم أرغموا الفلسطينيين وأخضعوهم لقواعدهم، وألزموهم بقوانينهم وأجبروهم على احترام معادلاتهم، وأن المناطق الحدودية والبلدات المجاورة ستشهد هدوءً حقيقياً وأمناً مستداماً، ولن تتعرض من جديد لتهديدات الفلسطينيين وبالوناتهم، ولا لهجمات المقاومة وصواريخها، ولا لهلع أنفاقها ودبيب الأرض تحت أقدامها.
ومن قبل في حروبه الأولى والكبرى، فيما عرف بحربي النكبة والنكسة، طرد مئات آلاف الفلسطينيين وشردهم من بيوتهم ومزارعهم، وأخرجهم من بلداتهم وقراهم، وألجأهم على العيش المهين في المخيمات في دول الجوار، أو الهجرة بعيداً عن الوطن إلى دول الشتات، وقد ظن أن اللجوءَ سييأسهم وسيحرمهم أمل العودة، وأن الشتات سينسيهم فلسطين، وسيعوضهم عن وطنهم ببلادٍ أخرى كثيرة وأوطان غيره بديلة، وأنهم –الإسرائيليين- سيهنأون بالعيش الرغيد في فلسطين، وسيأمنون فيها، وسينعمون بالأمن والأمان، وسيتمتعون بأرض العسل والمن والسلوى الموعودة، ولن يكون في أرض الميعاد من ينغص عليهم عيشهم ويكدر حياتهم، أو ينكد عليهم ويحرمهم الأمن والاستقرار والرخاء والاسترخاء الذي حلموا به وأملوا فيه.
وما بين الحربين وبعدهما، لم يترك العدو الإسرائيلي وسيلةً إلا واستخدمها ضد الفلسطينيين، مستعيناً بأسلحته الفتاكة، وطائراته المدمرة، وصواريخه المزلزلة، وغيرها من الأسلحة الحديثة المروعة، المصنعة محلياً والمستوردة من حلفائه، التي ما زال عقله الباغي يتفتق عنها وعن كل غريبٍ وشاذٍ، وقاسٍ وعنيفٍ، غير مبالٍ بما يرتكب من جرائم فظيعة، وانتهاكاتٍ لحقوق الإنسان مريعة، تخالف القوانين والأنظمة، وتنتهك القيم واللوائح والشرائع الدولية والسماوية، إذ يجد من ينصره ويسانده، ويؤيده ويدافع عنه ويحميه ويبرر له.
لكن الواقع يكذبهم والحقيقة تفضحهم، والنتائج تأتي عكس تمنياتهم، فها هي المقاومة الفلسطينية، وكذا العربية أيضاً، التي تبلي في كل حربٍ بلاءً حسناً، وتقاتل على الجبهات كأقوى مما تقاتل الجيوش، تخرج بعد كل حربٍ وعدوانٍ أقوى وأقدر، وأكثر تسليحاً وأفضل تنظيماً، وأقرب إلى النصر بثباتها، وإلى الكسب بإحباطها العدو وإفشالها مخططاته، وإجباره على القبول بوقف إطلاق النار، والاستجابة إلى شروط المقاومة والالتزام بمحدداتها، والعودة إلى المربعات الأولى التي كانت قبل العدوان، دون أن يتمكن من فرض شروطه، أو تحقيق أهدافه التي يعلن عنها مراراً، كنزع سلاح المقاومة، أو إبعادها عن الحدود، فضلاً عن فشله المتكرر في تدمير أنفاقها وتفكيك صفوفها، وتقييد عملياتها.
ما زال العدو عاجزاً عن تحقيق النصر الناجز رغم أنه يستهدف بعدوانه الممنهج وحربه الضروس الأطفال والنساء والشيوخ والحجر والبشر، والتاريخ والثقافة والحضارة والعادات والقيم والتقاليد، والموروثات العقدية والمفاهيم الدينية، وقد حاول من خلال حروب الأرض المحروقة أن يعيد تهجير الفلسطينيين من جديد، وترحيلهم من أرضهم، وإخراجهم من ديارهم، لكنه تفاجأ بأن الفلسطينيين أصبحوا أثبت على أرضهم من الجبال الراسيات، وأنهم لا ينزاحون عنها ولا يهاجرون منها، ولا يتخلون عنها ولا يفرطون فيها، رغم قساوة القصف، وشدة العدوان، وضراوة الحروب والمعارك، وبدلاً من أن يحقق نظريته القديمة التي تقول “أرض كثيرة وسكان أقل”، أصبح الفلسطينيون يزدادون عدداً ويتكاثرون نسلاً، ويتمسكون بأرضهم سكناً ووطناً.
يقول الخبراء الإسرائيليون، ومعهم الاستراتيجيون العسكريون والأمنيون، والأخصائيون الاجتماعيون، وعلماء النفس والخبراء في السلوك البشري، أنه لا يمكن الانتصار على الفلسطينيين ما لم يعترفوا بهزيمتهم، ويقروا بخسارتهم، ويقبلوا بنتيجة الحرب الحاسمة، التي تعني الاستسلام والخضوع، والاعتراف الصريح بالهزيمة، والقبول بكل ما يملى عليهم من طلباتٍ وأوامر، ذلك أن الهزيمة النفسية هي المدخل إلى الهزيمة الواقعية، وبدون إقرار الفلسطينيين بهزيمتهم فسيبقون يقاومون ويقاتلون، ويقنعون أنفسهم بالغلبة والقوة، وسيشجعون بعضهم البعض على المقاومة والقتال، والصمود والثبات، وهو ما يجعل إعلان “إسرائيل” النصر التام مستحيلاً.
يعزز هذا المفهوم الذي يعاني منه الإسرائيليون، دينيس روس، المبعوث الأسبق للسلام إلى منطقة الشرق الأوسط، الذي يؤكد أنه يصعب على “إسرائيل” أن تحقق النصر التام على الفلسطينيين، إلا أن يعترف الفلسطينيون أنفسهم بالضعف والهزيمة، وهو الأمر المستحيل على “إسرائيل” تحقيقه، إلا أن تتعاون معها الدول العربية المجاورة، ذات العلاقات التاريخية والروابط المصيرية مع الفلسطينيين، فهي الأقدر على إقناع الفلسطينيين بالهزيمة، أو إجبارهم على الاعتراف بها، وبغير ذلك فإن الصراع سيستمر، والحروب ستتكرر، وحالة عدم الاستقرار في المنطقة ستطول.
يرد الأطفال الفلسطينيون الذين ولدوا بعد النكبة بأكثر من ستين عاماً، الذين يعيشون في فلسطين مرابطين فوق ترابها، واللاجئون في دول الجوار وبلاد الشتات البعيدة، ومعهم آباؤهم المقاتلون، وأجدادهم الواثقون، بكل ثقةٍ ويقينٍ وإيمانٍ، أن فلسطين أرضنا، وهي بلادنا وستعود لنا، وسنحررها ونخرج منها أعداءنا، وستكون وطننا الحر المستقل، ودولتنا العزيزة الأبية، وعاصمتها الأبدية القدس البهية، وفيها سنعيش وأجيالنا، ونستعيد فيها أمجادنا، ونحيي فيها تراثنا، ونطهر من دنس المحتلين مقدساتها، وسنكتب من جديد على شواهد قبور أجدادنا، أسماءهم الخالدة، ونقول لهم ثقوا أننا وإياكم سنبعث من هذه الأرض المباركة، التي كتبها الله لنا ولكم ولأجيالنا من بعدكم.