مصطفى اللداوي: الضفةُ الغربيةُ تشبُ عن الطوقِ وتنتفضُ
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
أخطأ العدو حين فسر صمت المقاومة وقلة عملياتها، أنها ضعفت واستسلمت، وأنها وهنت وانتهت، وأنه تمكن منها وانتصر عليها، وأنه أَمِنَ واطمأنَ في القدس والضفة الغربية، واستقر فيها واستوطن، وثبتت فيها أقدامه وترسخت، وأنه انتصر على المقاومة وكسرها، وأطفأ نارها وأخمد جذوتها، وأنهى انتفاضتها وقضى على قدراتها، ونجح بسياساته وممارساته في تحقيق مخططاته والوصول إلى غاياته.
فقد وسع العدو في الضفة الغربية مستوطناته وزاد عددها وضاعف سكانها، وصادر المزيد من الأراضي من أهلها، وطردهم منها وأقصاهم عنها، وهَوَّد القدس وغَيَّرَ معالمها، واعتدى على المسجد الأقصى وانتهك حرماته، ولاحق وقتل وصفى وأعدم عشرات الفلسطينيين واعتقل المئات، وتوهم أنه بممارساته القمعية قد أخضع أهلها وتحكم في مصائرهم، واستلب قوتهم وانتزع منهم إرادتهم، وأنه بقوته استعلى وبجبروته استحكم، وأن الأرض أمامه قد أصبحت رخوة سهلةً، يسير فيها سيرَ السكين في الزبد الطري، وأن أهلها باتوا طيعين لينين، وأنه يستطيع أن يفعل بهم ما يشاء، ويمارس ضدهم ما يريد، وينتزع منهم ويسلخ عنهم ما يشاء، وأنه لن يجد منهم مقاومةً تذكر أو صموداً يمنع.
إلا أن العدو لم يهنأ طويلاً، فرياح القدس والضفة الغربية تهب دائماً عاصفةً بما لا يشتهي الاحتلال وبما لا يهوى السجان، فتفاجئه وتصدمه، وتباغته وتربكه، وتشل قدرته وتضعف إرادته، وهي وإن بدت ضعيفة فهي هوجٌ وعاصفة، وأنواءٌ وأعاصير متجددة، تشعلُ ناراً حول الاحتلال، وتزلزل الأرض تحت أقدامهم، وتميد بهم وتكاد تسقطهم وتغرقهم.
وهي وإن بدت قليلة أو متباعدة، فهي تنتقل من مكانٍ إلى آخر بسرعةٍ وقوةٍ، وخفةٍ وخبرةٍ، وتتعاضد مناطقها وتتضامن مدنها، وتتعاون قراها وتتكامل مخيماتها، وتهب لنصرة بعضها والتخفيف عن أهلها، فلا يستفرد العدو ببعضها، ولا يصب جام غضبه على جزءٍ منها ويعزل الآخرين عنها، محاولاً تكريس الفصل وتعميق العزل، ليتمكن من تنفيذ مخططاته بسهولةٍ، والسيطرة على الأرض والسكان دون كلفةٍ أو عناء.
فقد بات العدو الإسرائيلي يستفيق في كل يومٍ على عملياتٍ جديدةٍ يقوم بها فلسطينيو الضفة الغربية، تارةً في مدينة جنين ومخيمها، وأخرى في قراها وبلداتها، وفي محيطها وعلى الطرق المؤدية إلى المستوطنات، تكبده خسائر حقيقية، وتجبره على التراجع عن مخططاته، والكف عن ممارساته، والتوقف عن ملاحقاته وتضييقاته، فالكلفة التي بات يدفعها كبيرة وموجعة، وهي في ازدياد مستمرٍ وصيرورةٍ لا تنقطع.
لكن شعلة المقاومة لم تتوقف في جنين فقط، بل انتقلت إلى جبل النار نابلس، التي رسم أبطالها صوراً للمقاومة رائعة، وصفحاتٍ للبطولة مجيدة، وأطلق شهداؤها رسائل خالدة، وودعوا شعبهم والبندقية بين أيديهم بكلماتٍ صادقة ووصايا عظيمة، كان لها أثرها الكبير على شعبنا وأهلنا، وعلى أمتنا والمتضامنين معنا، وكان لذويهم دورٌ رائدٌ في وداعهم ورثائهم، وفي صبرهم واحتسابهم.
لم تقتصر المقاومة على نابلس المدينة، وإن كان رجالها قد انبروا للدفاع عن حرماتها وبيوتها، فتصدوا خارجها لفلول المستوطنين وردوهم، وكمنوا لهم وقنصوهم، وتصدوا لجيشهم وآذوهم، وكذا كانوا رجالاً في رام الله والخليل، وفي بيت لحم وقلقيلية، وفي طوباس وسلفيت، كما في القدس وبلداتها، وحول المسجد الأقصى وباحاته، وما زال أبناؤها الصِيدُ الكماةُ يرومون كما الأسود، ويخترقون الحدود ويتجاوزون الجدران، ويصلون إلى حيفا ويافا، وإلى تل أبيب والنقب، والعفولة والخضيرة، وينفذون أعظم العمليات فيها، ويمكثون فيها الساعات الطوال، يتجولون ويتحركون، ويجبرون المستوطنين على اللجوء والاختباء، والجيش على التراجع والانكفاء.
أمام صولة المقاومة وهبة القدس وثورة الضفة، لا تتوقف التقارير الأمنية الإسرائيلية تنذر بالأخطر وتبشر بالأسوأ، وتحذر حكومتها بأن الضفة الغربية لا تستكين على الخسف، ولا تنام على الظلم، ولا تقبل الضيم، وأن المزيد من الممارسات القمعية ضد الفلسطينيين، كسلب الأراضي ومصادرتها، وتوسيع المستوطنات وزيادتها، وملاحقة الفلسطينيين وقتلهم، والتضييق عليهم واعتقالهم، وهدم بيوتهم وخلع أشجارهم، وإتلاف محاصيلهم وحرق زيتونهم، واستباحة مدنهم وبلداتهم واجتياح قراهم ومخيماتهم، سيعجل في اندلاع انتفاضةٍ جديدةٍ، وسيخلق ثورةً واسعةً ومقاومةً شاملةً، تشارك فيها كل القوى، ويشترك في عملياتها كل الفلسطينيين.
يوماً بعد آخر تثبت الضفة الغربية أنها نارٌ تتقد، وجمرةٌ تلتهب، وشعلةٌ ينتقل أوارها من مدينةٍ إلى أخرى على امتداد بلداتها وقراها ومخيماتها، وأنها ليست رماداً سكنَ، ولا ثورةً خمدت، ولا شعباً رُوِّضَ، ولا مقاومة يئست، ولا أرضاً خضعت أو سلطةً سلمت، وأن الرهان على صمتها جهالةٌ، وتوقعَ استسلامها ضحالةٌ، وتحكمَ سلطات الاحتلال بها حلمٌ بعيدُ المنال، وعصيٌ على النوال، وأن الاعتراف بضعفها مستحيلٌ، والخضوع لميزان القوى مرفوضٌ، والإقرار بتفوق العدو غير ممكنٍ، مهما بغا وطغا، وظلم وقتل واعتدى، وقد جرب العدو فيها بأسه وجبروته، واستخدم ضدها كامل قوته ومختلف أساليبه، إلا أنه بقي أمامها ضعيفاً ومنها خائفاً.