مقالات الخامسة

نادية حرحش: كيف أصبحنا نواجه معارك الحياة فرادى؟

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

قد تبدو الأمور في غاية السخرية. كوميديا سوداء بكل ما تحمله الكلمة من معنى تقودنا الى كوميديا الهية. كل شيء في هذا الكوكب اختلط ببعضه البعض. فلا فرق بين حكومة أمريكا وحكومة اشتية الا بتصنيفات الدول والعالم بين اول وثالث. ولكن الأداء واحد. حكومات تبيع الوهم للشعوب وتبيع الشعوب حتى تبقى افرادها.
فيلم “لا تنظر الى الأعلى”، من بطولة ليوناردو دي كابريو العالِم الذي تكتشف طالبته نيزك على وشك الاصطدام بكوكب الأرض ويدمرها نهائيا تماما. يذهب الى رئيسة الولايات المتحدة الأميركية ميريل ستريب التي تعطيه حفنة وقت وتشد على أهمية الموضوع وتحيله الى مستشارها جيسون. فيعطوه فرصة في الاعلام. يظهر وطالبته على اهم برامج أمريكا وتتحول العالِمة الى شيطانة بعيون المجتمع ويصبح هو الى العالِم المثير الجميل بعدما تستهويه مذيعة البرامج. لا يأخذ الامر أي تغطية، فتغلب اخبار مغنية شابة وعلاقتها مغني اخر على الاعلام، ويتحول موضوع النيزك الى نكتة لا تثير حتى الابتسامة. فضيحة جنسية لرئيسة الولايات المتحدة تهدد حكمها فتقرر ان موضوع النيزك مهم وحقيقي. تخرج الى الشعب وتقدم لهم بطلا من الجيش سيقود عملية تصدي للنيزك عن طريق صواريخ تعترض طريقه. بعد اقلاع الصواريخ ترجع الصواريخ ادراجها بقرار رئاسي بعد ان يكتشف أحد المستثمرين المانحين للحكومة ان بالنيزك ذهب وارتطامه بالأرض سيجعلهم يحصلوا على غنائم عظيمة. يتحول الرأي العام ضد العالِم بعدما كان الرجل الأكثر اثارة في أمريكا، وينبذه الشعب كما نبذوا زميلته من قبل عند قول الحقيقة بعد ان يرى بأم عينيه النيزك في السماء. تخرج حملة انظر الى الأعلى ويهتاج الرأي العام، وتخرج بالمقابل حملة لا تنظر الى الأعلى من قبل الحكومة واعدة الشعب بالذهب والخيرات القادمة.
ينتهي الفيلم بهروب رئيسة أمريكا والمستثمر على طائرة معدة للهروب بها متسع لشخصين، تطلب من العالم ان يأتي معها ويستطيع ان يصطحب إما زوجته او عشيقته المذيعة. يرفض العالِم العرض ويتمنى لها رحلة موفقة مع جيسون مستشارها الأمين. تستغرب هي من ذكر جيسون وكأنها نسيت وجوده بالمطلق، بينما نرى مشهدا يكون جيسون جالسا فيه ينتظر رجوعها لاصطحابه. وفي مشهد أخير يرتطم فيه النيزك بالأرض مدمرا كل شيء يحاول العالم وعائلته وزملائه الذي دقوا الجرس تكملة عشاءهم الأخير ولقد انتهى كل شيء الى الابد.
قبل شهر اجتاحت وسائل الاعلام هجوما مشابها بوسم أوقفوا فيلم اميرة لتعرضه بحبكة درامية غير مقبولة للمجتمع الفلسطيني الذي قرر ان الأسير مقدس.
نطفة الأسير المقدسة التي لا يمكن ان يدنسها نص درامي. الأسير المقدس الذي يمثل ما تبقى من صمودنا ومقاومتنا وكل ما ننتظره من التحرر من الاحتلال. وكأن التحرر من الاحتلال والافراج عن المعتقلين متصلان بحبل سري.
هذا هو حالنا البائس، التعلق بالأسرى في سجون الاحتلال المحصنة منتظرين تحريرهم لنجاتنا.
الاسرى هم من يقاوم عنا. الاسرى هم من يصمد عنا. الاسرى هم من يحافظوا على بقائنا من خلال نطفهم المهربة.
دورنا هو بالتهليل والحفاظ على صمودهم. هم بالمعتقلات يواجهون الاحتلال بكل صوره، ونحن في الخارج ندعمهم بأصواتنا من خلال شاشات أجهزة موبايلاتنا وحواسيبنا.
منذ ١٤٠ يوم ويواجه الأسير هشام أبو هواش سجانه ومنظومته بالسلاح الوحيد الذي يملكه الانسان عندما تنعدم به السبل. يواجه معركته وحيدا بجسده في اضراب عن الطعام يأكل ما تبقى له من حياة تدريجيا. ونحن نصحى ونرى ونبدأ بالدعم والصياح والظاهر بعد ان يبدأ الموت يظلل بشبحه على جسد انعدمت منه الحياة تدريجيا.
نحن هكذا.. نحب ابطانا امواتا. او على وشك الموت.
أفكر اين كانت كل هذه الأصوات التي بدأت بالصياح والهرولة الى هشام أبو هواش الآن وهو على هذا الحال منذ شهور. هل كان فيلم اميرة أكثر أهمية من حياة هذا الأسير الذي قاد معركته وحيدا؟ صرنا نتفاخر بعد أيام الاضراب عن الطعام الذي يدخل فيه الأسير من اجل حريته، ونحن لا نستطيع التحكم بأنفسنا إذا شعرنا بجوع بعد ساعات من عدم الاكل. نتفاخر في صموده وفي تحمله بينما نعيش حياتنا داعمين له عن بعد في تغريده او وسم اسمه.
وإذا ما انتصر في معركته وصفقنا ونصبناه بطلا، ما هي الا شهور وترد له عافيته فيتم اعتقاله على ايدي قوات الامن الفلسطينية.
في مظاهرات محدودة بدأت تجول شوارع رام الله من اجل هشام هواش ردد المتظاهرون ” قول خبر شو شو سوّىت.. روّحت بقنينة زيت…ضلك نسق يا هلفوت… هي هشام عم بموت” بالإشارة الى زيارة الرئيس الفلسطيني الأخيرة لوزير الحرب الإسرائيلي جانتس الذي اهداه قنينة زيت.

بينما انشغل الناس بتصاريح الدخول الهامة الى إسرائيل التي تم منحها للشيخ، وبينما خرج الشيخ منتصرا للناس بملفات لم الشمل كإنجاز تاريخي، وبينما تفاخر الإسرائيلي بإهدائه قنينة زيت من شجرة زيتون بالتأكيد خلعت من ارض فلسطينية لتزرع ربما في حديقة بيته او حقل في كيبوتس او مدخل مستوطنة، كان ملف الاسرى يغمس بين الحاضرين من اجل حشرهم اكثر والنيل من عائلاتهم اكثر. وكان هشام يقود معركته وحيدا.
كان جسده لا يزال يقاوم.
كان شكله لا يزال لا يصلح لتداول صوره بين كيف كان وكيف صار.
كانت أنفاسه لا تزال تبث الحياة في عيونه.
لم يكن المشهد مأساويا بقدر اهتمامنا.
نحن نريد ان نهتم بقضايا سريعة نقلبها لنهتم بغيرها.
قصة اسير مرّة.
قصة قدس مرّة.
قصة شهيد مرّة.
وقد تكون قصة اجتياح على غزة ودمار أكثر وشتات أكثر وقتل أكثر محركة لوجداننا لوقت أكبر.
فلم تعد قصص الهدم اليومي مثيرة للاهتمام، ولم تعد قصص سرقة الأراضي ومصادرتها مثيرة للهتما، ولم تعد قصص الاعتقالات مثيرة، ولم تعد قصص التنكيل بالناس مثيرة. فالمتفرج منا لم يعد يميز من هي الجهة التي تهدم وتصادر وتعتقل وتنكل يوميا بالمواطن.
لدينا ما هو اهم بين القصص الأهم كقصة هشام أبو هواش. هناك تعيين وزير داخلية ننتظر من يخلفه في جهاز الامن الوقائي. وهناك وزير اوقاف سنقف في طوابير المهنئين لتعيينه كما طلب من جمهور المهنئين. فأصحاب السلطة في أمس الحاجة الى فتاوي توسم الشرعية الدينية عليهم. فوزارة الأوقاف هي وزارة الدفاع على حد تعبير رئيس الوزراء صاحب نظريات العناقيد المتدلية التي انتهى موسمها ولم يتم قطفها ابدا، فصارت طعاما للطيور الجائعة.
وهناك تقاسم على انفصال لأصحاب السلطة بين غزة والضفة لا يحتمل الا استغلال ما يمكن استغلاله.
فصبرا هشام…
واستمر في معركتك وحيدا.
فنحن لا نكترث الا للحظات. ضمائرنا مستترة مغيبة هائمة في جمع قوت حياتها التي نريدها أقرب الى اهل السلطة التي نكرهها ونمقتها. فكلنا نريد ان نصبح في رخاء أكثر. فهناك قصص طلاق فنان وزواج فنانة. هناك قصص فساتين، وماركات وحقائب وساعات. هناك فلاتر نكتشفها لنبدو أجمل وجري وراء ارزاقنا من اجل فيلر وبوتكس ووشم حاجب ونفخ شفاه وحف حنك وشد رقبة ورفع صدر ومؤخرة. هناك أسلحة نخبئها لنقتل اعداءنا من جيراننا. وهناك تعليم نريد ان نؤمنه لأولادنا لكي يستطيعوا ان يخرجوا من هذه البلد ولا يعودوا اليها ابدا. هناك حرب مصيرية نخوضها من اجل بقائنا..
سنطلق الوسوم من اجلك، وسيخرج البعض منا في مظاهرات من اجلك. ولكن أحدا منا لن يعرض نفسه للخطر الحقيقي من اجلك. فاعذرنا يا هشام.
ماذا فعلنا من اجل أسرى محررين رأينا التنكيل بهم واعتقالهم من قبل أبناء جلدتنا؟
ماذا فعلنا من اجل دم نزار؟
ماذا نفعل من اجل محاكمة قتلة نزار؟
رحل نزار وبقوا.
ستنتصر عليهم يا هشام وسيقاوم جسدك المنهك وستكون بطل معركتك…وبطلنا مؤقتا…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى