نالت الشهادة… وكانت الحياة لمن تحب حكاية الشهيدة الصحفية مريم أبو دقة
شبكة الخامسة للأنباء - غزة

حكاية الشهيدة الصحفية مريم أبو دقة.. أقمار الصحافة إعداد: سهر دهليز
في كل صورة كانت تلتقطها، كانت تسرق للحياة لحظة من الموت. لكن في الصورة الأخيرة، لم تكن خلف الكاميرا… كانت هي الحكاية، وكانت النهاية.
مريم أبو دقة، الصحفية الفلسطينية، لم تكن تروي الألم فقط، بل كانت تحياه. وهبت الحياة لمن تُحب، وحمت ابنها من الحرب، ووقفت أمام الخطر بعدسة وقلب… حتى باغتها صاروخ الاحتلال، وكتب بدمها سطرًا جديدًا من مأساة غزة.
في نوفمبر 1991، وُلدت مريم في بلدة عبسان الكبيرة شرق خان يونس، جنوب قطاع غزة.
سيرتها المهنية
درست الصحافة والإعلام في جامعة الأقصى، وانطلقت في مسيرتها الإعلامية، حيث كانت ترى الكاميرا رسالة، لا وظيفة.
ورغم التحديات، واصلت عملها الصحفي حتى اللحظة الأخيرة. لترتقي في صباح 25 أغسطس 2025، شهيدةً في قصف إسرائيلي استهدف مجمع ناصر الطبي في خان يونس، جنوب قطاع غزة. مما أسفر عن ارتقائها مع عدد من زملائها الصحفيين.
عملت مريم مع مؤسسات إعلامية دولية مثل “إندبندنت عربية“ ووكالة “أسوشيتد برس“، كانت معروفة بتغطياتها الإنسانية ونقلها لمعاناة المدنيين في غزة. استشهاد مريم أثار موجة من الغضب، خاصة بعد تجاهل وكالة “أسوشيتد برس” لذكر اسمها في بيانها الرسمي، رغم عملها معهم. مما دفع العديد للمطالبة بتكريمها والاعتراف بتضحياتها.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تواجه فيها مريم الخطر في سبيل نقل الحقيقة. في تقارير سابقة، تحدثت عن ضعف الحماية للصحفيين في الميدان، واضطرت إلى حياكة “جاكيت” يشبه السترة الواقية من الرصاص، مكتوب عليه “PRESS”، لمحاولة تمييز نفسها أمام رصاص القناص الإسرائيلي.
قبل رحيلها بساعات، نشرت مريم مقطع فيديو على حسابها في “إنستغرام”، قالت فيه: “جنة بتستنى وهنا من ربي ورضوان”، في إشارة مؤثرة إلى إيمانها العميق واستعدادها للتضحية في سبيل رسالتها.
شهيدة العدسة والقلب في غزة
“كانت عيونها تسبق العدسة”، بهذه الكلمات لخّصت إخلاص، شقيقة الشهيدة الصحفية مريم أبو دقة، مسيرتها المهنية، قائلة:”مريم كانت تطارد كل لحظة تستحق أن تُروى. من مسيرات العودة إلى كل حرب مرّت على غزة، كانت دائمًا في قلب الميدان… أول من يصل وآخر من يغادر. لكنها هذه المرة، لم تغادر الميدان إلا شهيدة، كما كانت تتمنى دائمًا”.
وأضافت: “كانت تحمل الكاميرا كأنها رسالة، وتركض خلف الحقيقة بلا خوف… حتى باغتها صاروخ الاحتلال وهي تؤدي واجبها في نقل الصورة”.
وتابعت إخلاص بصوت مثقل بالحزن:
“مريم لم تكن صحفية فقط، كانت أمًا وأختًا وحنانًا لا يُعوّض. تركت خلفها طفلها الوحيد، غيّث، الذي ظلّ ينتظر عودتها من توثيق حرب الإبادة في غزة، دون أن يعرف أن رحلتها هذه المرة، كانت إلى السماء”.
وهبت الحياة لمن تُحب، وسلبتها منها آلة الحرب
لم تكن مريم أبو دقة مجرّد صحفية تؤدي عملها، بل كانت ابنة استثنائية، وأمًا محبة، وإنسانة نذرت حياتها للآخرين. خطّت سيرتها بالتضحية، وودّعت الحياة بشهادة مكلّلة بالشرف.
حين أرهق الفشل الكلوي جسد والدها، لم تحتمل مريم رؤيته يتألم. ذهبت دون علمه، أجرت الفحوصات الطبية، ثم عادت إليه بخبرها الكبير: “سأتبرع لك بكليتي“. رفض بدايةً، خائفًا عليها، لكنها انتصرت عليه بحبها، وأقنعته بإصرارها. خضعا معًا لعملية ناجحة، وأعاد له جسدها الحياة.
اليوم، يجلس الأب المفجوع في خيمة حزينة فوق أنقاض منزله المدمر، محاطًا بصورها وصدى ضحكاتها. يتذكر كيف كانت تملأ البيت حياة، وكيف أهدته عمرًا جديدًا، ثم رحلت، تاركة جرحًا لا يندمل.
يقول رياض أبو دقة، بصوت يخنقه البكاء: “مريم ما فكرتش بنفسها يوم، كانت دايمًا تفكر فيا، في إخوتها، في ابنها، في الناس كلها… كانت تقول: حياتك أهم من حياتي”.
ويضيف: “أنقذتني، وقدمت لي أعظم ما تملك”. مع تصاعد العدوان الإسرائيلي، حرصت مريم على حماية طفلها الوحيد “غيث” بإرساله إلى والده خارج غزة، بينما بقيت تحمل كاميرتها، وتوثق الألم والدمار. كانت تعرف أن ثمن الحقيقة قد يكون حياتها، لكنها لم تتراجع.
وصيتها الأخيرة
وقبل استشهادها، أوصت ابنها في رسالة مؤثرة بأن يصلي ويدعو لها، وأن يكون متفوقًا في حياته، وألا ينسى اسمها، بل يسمي ابنته يومًا ما “مريم”. رغم رحيلها المبكر، ستبقى مريم أبو دقة رمزًا للبطولة والتضحية، امرأة من رحم المعاناة صنعت لنفسها مكانًا في صفحات التاريخ، حملت الكاميرا لتوثق الحقيقة ب
لا خوف، وهبت جسدها لإنقاذ من تحب، ثم قدمت روحها فداءً للحرية والكرامة.
ستبقى صورتها حية في قلوب كل من عرفها، وستلهم قصتها أجيالاً من النساء والرجال لمواصلة النضال من أجل حقهم في الحياة والكرامة. ومهما حاول الظلام أن يخنق صوتها، ستظل كلماتها وصورها شاهدة على أن الحقيقة لا تموت، وأن الشهادة هي بداية حياة جديدة تكتبها الأبطال الذين لا يُنسون.