نزع السلاح بلا تسوية: وصفة مفتوحة لاستدامة الحرب في غزة
شبكة الخامسة للأنباء - غزة

مصطفى إبراهيم
تتقاطع المؤشرات السياسية والأمنية الواردة من الدوحة، ولا سيّما الاجتماع الذي عقدته القيادة الوسطى الأميركية بشأن “القوة الدولية” في غزة، عند خلاصة واحدة: لا اختراق حقيقياً، ولا إجابات عملية، ولا توافقاً دولياً يمكن البناء عليه. فبحسب وسائل إعلام، لم يكن الاجتماع حاسماً ولا مثمراً قياساً بتوقعات الإدارة الأميركية، كما أن امتناع عدد من الدول عن المشاركة شكّل إشارة واضحة إلى هشاشة الفكرة نفسها، وعمق الانقسام الدولي حيالها.
من وجهة النظر الإسرائيلية، تبدو هذه المؤشرات سلبية بامتياز. فإسرائيل تصرّ على اختزال دور أي قوة دولية محتملة في مسألة واحدة: نزع سلاح غزة. لكنها، في الوقت ذاته، لا تُخفي عدم ثقتها بهذه القوات، وتعلن عملياً أنها الجهة الوحيدة القادرة – أو المخوّلة – بتنفيذ هذه المهمة، حتى لو كان الثمن العودة إلى الحرب أو فرض خطة استنزاف طويلة الأمد. والنتيجة المباشرة لهذا التوجّه هي تكريس الوضع القائم في غزة: لا وقف فعلياً للحرب، ولا إعادة إعمار، ولا أفق سياسياً.
في هذا السياق، يصبح واضحاً أن نزع السلاح خارج إطار تسوية سياسية شاملة، تكون “حماس” طرفاً أساسياً فيها، ليس سوى شعار أجوف. فالتجربة، كما الوقائع الميدانية، تثبت أن أي مقاربة أمنية صِرفة، مفصولة عن حل سياسي واقعي، محكومة بالفشل. وإذا لم تتغير مواقف إسرائيل و”حماس”، ولم تنجح الوساطات في إنتاج حلول قابلة للاستمرار، فإن القرار النهائي سيبقى في يد الإدارة الأميركية، التي ستُضطر عاجلاً أم آجلاً إلى التعامل مع هذا المأزق المركّب، لا الاكتفاء بإدارته.
ضمن هذا المشهد، تواصل الحكومة الإسرائيلية الهروب إلى الأمام عبر سياسة الاغتيالات. فاغتيال القيادي في “حماس” رائد سعد، الذي تصفه إسرائيل بأنه أحد مخططي هجوم 7 أكتوبر والمسؤول عن إعادة تأهيل الجناح العسكري للحركة، قوبل بترحيب واسع في إسرائيل. غير أن هذا الاحتفاء يخفي في جوهره نوايا إسرائيل الحقيقية: عدم الالتزام بالاتفاق، والتنصّل من أي مسار سياسي جدي.
حتى محللون عسكريون إسرائيليون يعترفون بأن مقتل سعد لا يشكّل ضربة قاضية لـ”حماس”. فالحركة، رغم فقدانها جزءاً كبيراً من قيادتها العليا وتكبّدها خسائر جسيمة، ما زالت الطرف الوحيد القادر على فرض نفسه في غزة. وكما كتب أحدهم: “لا يوجد في غزة من يتحدى حماس، التي عادت بسرعة مثيرة للإحباط لتكون صاحبة البيت بلا منافس”، وذلك في وقت لم تتمكن فيه الولايات المتحدة من بلورة قوة متعددة الجنسيات قادرة على تولي المسؤولية الأمنية أو فرض مسار نزع السلاح.
وبحسب محللين إسرائيليين، يتصاعد القلق في إسرائيل مع بروز تحالف “الدول الثماني”، الذي يضم خمس دول عربية (السعودية، مصر، الأردن، الإمارات، قطر) وثلاث دول إسلامية (تركيا، باكستان، إندونيسيا). ويُعد هذا التحالف ظاهرة جديدة في الترتيبات السياسية الإقليمية، لكونه يربط بين دول غير متجاورة جغرافياً، وذات توجهات سياسية ومصالح متباينة.
وتعود جذور هذا التحالف إلى القمة العربية–الإسلامية في الرياض في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، في خطوة استثنائية هدفت إلى إظهار موقف موحّد إزاء الحرب على غزة، وهو ما يزعج إسرائيل ويدفعها إلى العمل بصورة حثيثة على محاولة تفكيكه.
في السياق ذاته، يتعمق الخلاف بين تل أبيب وواشنطن حول دور تركيا. ففي حين يرى مسؤولون أميركيون أن أنقرة ينبغي أن تكون جزءاً من قوة الاستقرار، نظراً إلى قدراتها العسكرية وقنوات تأثيرها في غزة، تعتبر إسرائيل ذلك خطاً أحمر. فمن منظورها، لا يمكن لطرف يحتفظ بعلاقات مع “حماس” أن يُصنَّف قوة استقرار، بل إن إشراكه قد يقوّض جوهر الهدف المعلن للقوة الدولية.
ويعكس هذا الخلاف أزمة أوسع في الرؤية: الولايات المتحدة تبحث عن إدارة للأزمة، بينما تتمسّك إسرائيل بإدامتها تحت عنوان “الأمن”.
وبحسب محللين إسرائيليين، يبدو أن صبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بدأ ينفد. فزيارة نتنياهو المرتقبة تأتي في إطار ساعة رملية سياسية تهدف إلى تهيئة الأرضية للقاء حاسم بينهما. وتريد واشنطن التحقق مما إذا كان نتنياهو مستعداً للانتقال إلى المرحلة التالية من الخطة الأميركية، وما هي حدود مرونته في ملف غزة والقوة الدولية.
من منظور إسرائيل، تمثّل هذه اللحظة اختباراً لكيفية قول “نعم” لمسار سياسي من دون التنازل، ولو شكلياً، عن “الخطوط الحمراء” الأمنية. أما من منظور الولايات المتحدة، فالسؤال أبسط وأخطر: هل نتنياهو شريك يمكن الاعتماد عليه، أم قائد يفضّل إبقاء الساحات مشتعلة؟
لم يعد ممكناً توصيف ما يجري في غزة بوصفه فشلاً في الوساطة أو عجزاً أميركياً عن الضغط. فالمعطيات المتراكمة تشير بوضوح إلى أن الولايات المتحدة لا تعجز عن الضغط على إسرائيل، بل تختار عدم ممارسته. فواشنطن، التي تمتلك أدوات ضغط سياسية وعسكرية ومالية غير مسبوقة، تواصل منح تل أبيب هامشاً مفتوحاً لإفشال أي مسار سياسي جدي، تحت ذرائع أمنية باتت مكشوفة.
إسرائيل، من جهتها، تعمل بصورة منهجية على تعطيل كل ما من شأنه إنهاء الحرب. فهي تفرغ فكرة القوة الدولية من مضمونها، وتختزلها في مسألة نزع السلاح، ثم تشكك بجدواها وتصرّ على احتكار تنفيذها بالقوة، حتى لو قاد ذلك إلى جولات قتال جديدة أو إلى حرب استنزاف طويلة الأمد. وبهذا، تتحول كل مبادرة سياسية إلى أداة لإدارة الحرب لا لإنهائها.
كما توفّر الإدارة الأميركية الغطاء السياسي لهذا السلوك، حين تواصل الحديث عن “تخطيط هادئ” و”سلام دائم”، بينما تسمح لإسرائيل بوضع شروط جديدة، وتأجيل الانتقال إلى المرحلة الثانية، وربط أي انسحاب بمعايير مفتوحة زمنياً تتعلق بنزع السلاح. والأخطر أن الإدارة الأميركية تدرك أن نزع سلاح “حماس” خارج تسوية سياسية شاملة مطلب غير واقعي، لكنها تواصل طرحه كشرط مسبق، ما يمنح إسرائيل الذريعة المثالية لإدامة الاحتلال والحرب.
وعليه، فإن إدامة الحرب في غزة ليست نتيجة سوء تقدير، بل نتاج شراكة سياسية كاملة: إسرائيل ترفض إنهاء الحرب، والولايات المتحدة تمتنع عن فرض ذلك عليها. وبين هذا الرفض وذاك الامتناع، تُترك غزة رهينة القتل والتجويع والدمار، فيما يُعاد تدوير خطاب “الاستقرار” لتبرير استمرار الجريمة.
فالحكومة الإسرائيلية غير مستعدة للتقدّم في أي مسار سياسي جدي، ولا لصياغة اليوم التالي أو إطلاق عملية حقيقية لإعادة إعمار غزة. وما يجري ليس سعياً إلى الاستقرار، بل إدارة واعية لحرب مفتوحة بأشكال مختلفة ومن دون أفق، تتحمّل إسرائيل والإدارة الأميركية مسؤوليتها المباشرة.



