نهاد أبو غوش: سبسطية ومحاولات الاحتلال سرقة الأرض الفلسطينية وتاريخها
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
تجري على امتداد الأراضي الفلسطينية عشرات المعارك اليومية الصغيرة والكبيرة من دون صخب كبير، تهدف هذه المعارك ظاهريا لتنفيذ عمليات سطو صغيرة ومحدودة، في إطار مواصلة قضم الأراضي الفلسطينية وضمها وتهويدها، ولكنها في مجموعها تمثل تطبيقا لبرنامج حسم الصراع بسياسات أمنية وقرارات أحادية الجانب ومن دون اي مفاوضات. أحيانا يتولى جيش الاحتلال ومؤسسات الدولة الرسمية كسلطة البيئة أو سلطة الاثار، وفي أحيان أخرى يبادر المستوطنون بحماية الجيش والقانون الإسرائيلي للقيام بعمليات النهب والسطو على الأراضي والممتلكات الفلسطينية، وقد انتعش هذا الاسلوب في السنوات الأخيرة بظهور ما يسمى الاستيطان الرعوي. ولكن ثمة خيط يجمع كل هذه العمليات إلى بعضها، وإذا ربطناها بما يقوم به الجيش والأجهزة الأمنية وحكومة إسرائيل ومختلف أجهزتها فنحن إزاء عملية واحدة وشاملة، تتكامل حلقاتها لحرمان الشعب الفلسطيني من المقومات المادية والمعنوية التي تُمكّنه من بناء دولته المستقلة، بحرمانه من الأرض وكل الرموز والعوامل التاريخية التي صنعت هويته الوطنية، ونمط حياته وثقافته، كالمقدسات الدينية والآثار والثروات الطبيعية، بعد ذلك يصبح أقصى ما يبقى لشعبنا بعض التسهيلات والتحسينات التي هي في جوهرها تراجعات عن القيود المصطنعة.
من ضمن العناصر الرئيسية التي يسعى الاحتلال لتجريدنا منها المحميات الطبيعية، وأبرزها غابة أم الريحان في محافظة جنين، وأحراش ومناطق وادي قانا بين محافظني سلفيت وقلقيلية، ووادي القف شمال الخليل، وأم صفا والزرقا شمال غرب رام الله، بالإضافة إلى المناطق المصنفة (د) كمحميات طبيعية مثل برية بيت لحم والخليل جنوب الضفة.
ينص برنامج الصهيونية الدينية برئاسة الوزير المتطرف بتسلئيل سموتريتش على أن كل أراضي فلسطين وثرواتها الطبيعية وآثارها هي ملك حصري “للشعب اليهودي” بمنحة خالصة من الرب، ويدعو بالتالي للسيطرة التامة على الغابات والأحراش والأودية والينابيع والكهوف والآثار. باقي القوى الإسرائيلية تحجم عن التصريح بذلك خشية من الانتقادات الدولية، لكنها تطبق ذلك عمليا كما فعلت الحكومات المتعاقبة بما فيها حكومات العمل وكاديما والليكود. بل إن اتفاقيات أوسلو زرعت بذور هذه السيطرة بتقسيم الأراضي المحتلة إلى تصنيفات (أ) و(ب) و(ج) و(د) مع موافقة رسمية فلسطينية على هذا التقسيم.
برنامج الحسم الإسرائيلي يهدف للسيطرة على أوسع مساحات ممكنة من الأراضي الفلسطينية وما عليها، وحشر الفلسطينيين في البلدات والمدن التي يقيمون فيها ضمن مساحاتها المحدودة حاليا بتحويلها إلى معازل (بانتوستانات) مجردة من كل مقومات التخطيط والنمو والتطور المستقبلي. وتكاد مواجهة هذه الخطة تقتصر على الأهالي المتضررين من هذه السياسات، وبعض البيانات والتقارير التي تصدرها المنظمات الأهلية المتخصصة والهيئات المرتبطة بالسلطة. ولا يخلو الأمر من تحركات ونضالات بطولية يخوضها الأهالي كما في مسافر يطا والأغوار وسبسطية وقرى شمال شرق رام الله وجنوب نابلس، لكن هذه النضالات في الغالب تبقى متفرقة وموسمية، وينقصها الترابط مع بعضها البعض ومع الجهد المطلوب من المؤسسات الفلسطينية الرسمية والأهلية، لتشكل بوحدتها سياقا نضاليا مؤثرا وفعالا ضد السياسات الإسرائيلية. في المقابل تتكامل ممارسات جيش الاحتلال مع مؤسسات الدولة القضائية والسياسية والإدارية المختلفة وأفعال المستوطنين العدوانية، ومن ضمن ذلك النشاطات التي تقوم بها مؤسسة (ريغافيم) المتخصصة في رصد “انتهاكات” الفلسطينيين في الأراضي المصنفة (ج) والإبلاغ عنها ومتابعتها قانونيا حتى لو تعلق الأمر بمجرد حفر آبار لجمع مياه الأمطار.
تمثل بلدة سبسطية شمال غرب نابلس نموذجا فذا لنضال الأهالي ضد مخططات الاحتلال للسيطرة على الأرض وسرقة التاريخ والآثار الفلسطينية، فهذه البلدة التي كان لها دور مميز في تاريخ الشرق خلال العصور الرومانية والهلنستية والبيزنطية، وآثارها شاهدة على عظمتها وعلى ثراء التاريخ الفلسطيني. وفي البلدة ضريح يقال أنه لجسد النبي يحيى (يوحنا المعمدان) حيث تقول الأناجيل والروايات أن الغانية سالومي طلبت رأس يوحنا من عمها الملك هيرودوس لرفض النبي، زواج الملك من أمها هيروديا زوجة أخيه فاستجاب لها. وكانت البلدة وما زالت في قلب الأطماع والتهديدات الإسرائيلية التي تحظر حتى محاولات العناية بالآثار وحمايتها. والغريب أن خط تقسيم المناطق بين تصنيفي (ب) و(ج) تعمد فصل الآثار عن البلدة وإبقاءها ضمن منطقة (ج) الخاضعة للسيطرة الإدارية والأمنية الإسرائيلية الكاملة.
رغم شح الإمكانيات وإجحاف الاتفاقيات، طوّر الأهالي آليات فعالة للحفاظ على كنوز البلدة الأثرية ومنها الكاتدرائية، والمدرج الروماني وشارع الأعمدة، ومن الآثار الحديثة قصر الكايد الذي تحول لمركز نشط في خدمة الشباب والفعاليات الاجتماعية وتم ذلك بمبادرة من الناشطة النسوية المعروفة المرحومة عناية الكايد.
دأبت مؤسسات البلدة وهيئاتها على تثقيف شبابها وشاباتها بتاريخ البلدة والأهمية الوطنية والإنسانية لآثارها، وقد لمس الكاتب ذلك خلال جولة مع جمع من الناشطين في الشرح العلمي والتاريخي الوافي الذي تولاه الطبيب الشاب فارس نزار الكايد، الذي كشف لنا عن المحاولات المحمومة لاصطناع تاريخ يهودي للبلدة وآثارها لتبرير نهبها والسطو على أراضيها وآثارها، وهي محاولات بدأت مع البعثات الاستشكافية التي سبقت الغزو الصهيوني وخصوصا إرساليات جامعة هارفارد منتصف القرن 19، ولكنها لم تعثر على اي دليل ملموس على محاولاتها المنافية للعلم بربط التاريخ بروايات التوراة فاستعاضت عن ذلك بسرقة أهم اللقى الأثرية وإيداعها في متاحف اميركية.
جهود الأهالي نجحت في تحسين المرافق السياحية التي باتت تستقطب رحلات سياحية عائلية من محافظة نابلس، لكن ذلك بحاجة إلى تطوير لتشجيع السياحة الوطنية وبخاصة المدرسية، والأهم إطلاق حملة وطنية شاملة للدفاع عن البلدة وآثرها والاستعانة بمنظمة اليونسكو وسائر الهيئات الثقافية والسياحية والحقوقية في العالم، ولا يعقل أن تكون مهمة الدفاع عن سبطية وآثارها من اختصاص أهل البلدة وحدهم، كما لا يمكن الركون إلى أن الدفاع عن القدس ومقدساتها هو شأن حصري بالمواطنين المقدسيين.