وثائقي يرصد الحرب النفسية والإستخباراتية لإذاعة إسرائيلية

الخامسة للأنباء – الأراضي المحتلة
يستعرض “فرق موسيقية”،(“تزموروت”)، وهو فيلم وثائقي إسرائيلي، مسيرة الإذاعة الصهيونية باللغة العربية في بداياتها، عندما كانت تعرف بـ “صوت إسرائيل”، ويكشف عن الدور الدعائي والاستخباراتي الذي تولتْه طيلة عقود.
يعود منتج الفيلم دودي بطيمر ومخرجه عوفر بنحاسوف لقصة “صوت إسرائيل بالعربية”، التي تم تأسيسها فور قيام إسرائيل، غداة نكبة 1948، كبوق دعائي إسرائيلي موجه لثلاثة أهداف رئيسة: العرب في العالم، فلسطينيي الداخل، واليهود الشرقيين.
يوضح الفيلم الوثائقي باللغة العبرية أن “صوت إسرائيل بالعربية” بثّت، منذ 1948، الأخبار والأغاني، ويكشف عن دورها الدعائي في محاولة التأثير على وعي الجماهير المذكورة، وتشغيل عملاء وتوجيههم عبر الأثير، ومن خلال رسائل شيفرة تضمنتها البرامج المختلفة.
في الفيلم تتحدث بروريا ناوي (96 عاماً)، أرملة الياهو ناوي، وهو أحد إذاعيي “صوت إسرائيل” ولاحقاً رئيس بلدية بئر السبع (1986-1963)، ويتضح أنه قدم برامج في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم بصفته إذاعياً مستشرقاً ومحللاً تحت اسم مستعار هو “داوود الناطور”. تتحدث بروريا بذهن صافٍ وذاكرة قوية وبانفتاح عمّا عرفته عن زوجها الإذاعي الراحل، فتقول إنه سبق جيله، وإنه لو كان بيننا اليوم لحمله الإسرائيليون على أصابع أيديهم”. ويقول صديقه يوسي آلفي إن “الناطور” كان “جينتيلمان” حقيقياً، مثقفاً، معرفته بالتوراة موسوعية.
ورحل ناوي في 2012 عن 92 عاماً، وكان قد وُلد في مدينة البصرة في العراق عام 1920، وهاجر إلى فلسطين وهو طفل في السادسة، واستقرت عائلته في القدس، ودرس الحقوق والاقتصاد في الجامعة العبرية، وعمل بالتزامن في تجارة قطع السيارات. الياهو ناوي الذي انتسب لـ “حركة الشبيبة الصهيونية” (“هاشومريم”) تزوج من بروريا عام 1947، وأقاما في حي مختلط في القدس. وكان اليهود يستعينون بالياهو ناوي لفهم اللغة العربية العالية التي استخدمها الإذاعيون الفلسطينيون في إذاعة “هنا القدس” في فترة الاستعمار البريطاني للبلاد.
الحرب النفسية
يقول الفيلم إن الصحافي وعضو الكنيست الإسرائيلي الراحل أوري أفنيري قد توجه، عام 1947، لالياهو ناوي وقال له، عشية إقامة إسرائيل وجيشها، إن هناك حاجة للتفكير في “الحرب النفسية”، فيما اعتقدَ ناوي بضرورة مخاطبة العرب بلغة عربية عامية لا أدبية، بخلاف ما كان مألوفاً حتى ذاك العام، فانضم للإذاعة التابعة لعصابة “الهغاناه” بصفته المذيع الأول والوحيد الذي تحدث بعربية عامية، بخلاف ما كان يسمع في إذاعات “راديو القاهرة”، “راديو بيروت” و”هنا القدس”، وقد انتحل له الاسم المستعار “داوود الناطور” مما زاد الغموض حوله. “كان المستمعون واثقين بأن داوود الناطور مواطن عربي حقيقي”، تقول زوجته، منوهة أنه رغم كونه شاباً بالثلاثين من عمره كان قد غيّر صوته لصوت ابن 60 عاماً، كي يعتقد سامعوه أنه بالغ وراشد وصاحب تجربة. وتضيف: “في البداية جرت عملية بثّ برامجه من مراكز مختلفة من البلاد في سرية مطلقة. لم أكن أعرف أين تقع محطة البثّ، ولم أسأل، وحاول البريطانيون إلقاء القبض عليه، وكنت أرتجف خوفا في كل مرة يغادر البيت لبّث برنامجه. وبعد 1948 بدأ يبث من استوديو “صوت إسرائيل بالعربية”، من محطة راديو أقيمت في جوار مقر وزارة الأمن في تل أبيب”.
خوف الرؤساء العرب
وطبقاً للفيلم الوثائقي “فرق موسيقية”، كان “داود الناطور” معروفاً بصفته معلقاً عربياً قروياً بدوياً له علاقات واسعة مع اليهود، فكان يتوجه في بداية البرنامج لـ “الإخوة الأردنيين والمصريين، أنا أعرف اليهود فماذا تريدون منهم؟ تعالوا وعيشوا معهم بسلام وستكونوا سعداء مثلي”. وتزعم بروريا في الفيلم أن المستمعين العرب انتظروا سماعه بشغف، حيث كان نجم “صوت إسرائيل بالعربية” مثلما كان أداة بيد إسرائيل التي استخدمته لاحتياجاتها الدعائية، وقد احتل قلوب الفلاحين وهم معظم مستمعيها”. وتتابع بروريا، في شهادتها التاريخية: “في منتصف الأسبوع كان يعمل في عدة أعمال، فقد أقام “الوحدة الدرزية- البدوية” داخل الجيش الإسرائيلي، وأقام صحيفة عربية، وفي يوم في الأسبوع كان يخلع بزتّه العسكرية، ويمثل خلف المياكرفون في “صوت إسرائيل بالعربية”.
وحسب بنحاسوف، خاطبَ “داود الناطور” العرب الفلاحين، وسكان المدن البسطاء، حتى طار “داود الناطور” على جناحي الشهرة والشعبية في البلاد العربية، حتى باتت حياته عرضة للخطر في مرحلة معيّنة وسرت شائعة أكثر من مرة أنه تم ضبطه، واحتفلت صحف لبنانية بـ “إلقاء القبض على الخائن”. ويتابع: “من جهة رغب القادة العرب بتصفيته وإسكاته، ومن جهة أخرى نجحَ بتربية جمهور واسع من المعجبين بين العرب الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين والسوريين، وخاف منه الزعماء لأنه شكل تهديدا بالنسبة لهم”.
توجيهات من الموساد
وعن أساليب عمل “الناطور” تقول بروريا إن رجال “الموساد” كانوا يحوّلون له رسائل مكتوبة، ومن جهته كان ملزماً بالاحتياط على مواد مناسبة لبثها طيلة 30-40 دقيقة”. وتضيف في كشفها النادر: “كان زوجي يتلقى رسائل خطية من رجالات “الموساد” ومن مؤسسات إسرائيلية أخرى، وكان يقدم البرنامج مستخدماً المجاز والأمثال، ساخراً من الرؤساء العرب الذين استشاطوا غضباً منه، وأعلنوا جوائز لمن يقتله، لكنه لم يخف، وأنا أيضاً لم أكن خائفة”.
وفي 05.12.1957 قدّم الياهو ناوي برنامجه الأخير، وحسب بنحاسوف، كان لاحقاً يفاخر بأنه ذهبَ لعدة أسواق، مثل سوق غزة أو نابلس، وكانوا يتعرفّون عليه، على “داود الناطور”، من خلال صوته الإذاعي المميز، بيد أنه كان يضحك وينكر ذلك، ولكن عندما انتخب رئيساً لبلدية بئر السبع الإسرائيلية توقفَ عن حجب هذه الحقيقة، واعترف أنه هو “داود الناطور”.
ويوضح الفيلم أن الياهو ناوي انتقل إلى بئر السبع في 1958، بعدما تمّ تعيينه قاضياً في محكمة الصلح في المدينة، وظلّ يعمل في القضاء حتى 1963. وفي العام 1972، أصدرَ معجماً بعنوان “أمثلة داود الناطور” عن الأمثال الشعبية العربية، بادرت صحيفة “معاريف” لنشرها بدءاً من العام 2000. وبدأ يعمل كراوٍ للقصص لجانب آلفي. ولغرض تسجيل الفيلم الوثائقي فتحت عائلة الياهو ناوي أرشيفه الخاص، وفيه تسجيلات نادرة من أربعينات وخمسينيات القرن الماضي، وهي تسجيلات مفقودة حتى في أرشيف الإذاعة “صوت إسرائيل بالعربية”.
مذيعون بأسماء مستعارة
ويستدل من الفيلم الوثائقي الإسرائيلي أن عدداً من المذيعين اليهود عملوا لجانب “داود الناطور” بأسماء مستعارة في “صوت إسرائيل بالعربية”، منهم المذيع سلمان دبي، الذي انتحل له اسم “ابن الرافدين”، والمعلق المختص بالشؤون العربية الصحافي الراحل شاؤول ميناشيه، الذي يتحدث في الفيلم، وتوفي قبل أن يبث، عام 2021.
ويستعيد شاؤول ميناشيه، الذي أجاد العربية بمستوى عالٍ جداً، تجربته في “صوت إسرائيل بالعربية”، فيعود للبدايات، ويعترف أنه في أول الطريق رفض توجيهات ضباط الأمن بث مواد تحريضية دعائية ضد عبد الناصر، حتى تم استدعاؤه لمكتب رئيس الوزراء بن غوريون، وتم توبيخه لتفضيله الهوية المهنية على هويته الوطنية الإسرائيلية، حيث قيل له: “أنت تقلق على سمعتك المهنية كمذيع، وإسرائيل كلها أمام خطر وجودي”. ومن وقتها اصطف مع بقية المذيعين، وانخرط في الحرب الدعائية النفسية تحت غطاء “العمل الإذاعي” في “صوت إسرائيل بالعربية”.
يتحدث في الفيلم رجالات أمن واستخبارات، منهم رافي سيطون وشمشون يتسحاكي والكاتب الأديب ايلي عامير وشلومو الكوويتي والمغنية ميرا ميسيكا، وهم في شهاداتهم يلقون الضوء على الدور الذي قدّمه مذيعو “صوت إسرائيل بالعربية” في منظومة الاستخبارات والدعاية الإسرائيلية التي بنتها إسرائيل فور قيامها عام 1948.
ويكشف بنحاسوف عن تفاجئه من هذه الشهادات، التي يقول عنها إن المشاهدين ربما لا يصدقون ما جاء فيها من “قصص مجنونة” لأنهم لا يتوقعون أن تقوم إذاعة بعمل استخباراتي من خلال دسّ رموز في الأغاني والأحاديث الإذاعية من أجل التواصل مع العملاء خلف خطوط العدو. وعن ذلك يضيف: “هذا أمر لا يصدق. تدلل الوثائق التي عثرنا عليها على أن أسرى في السجون العراقية والمصرية قد تلقوا رسائل عبر صوت إسرائيل بالعبرية”.
ويؤكد بنحاسي أن مدير التسجيلات التاريخية في الإذاعة حذّره من أن أحداً لن يتعاون معه في فتح هذا الملف الحساس. ويتابع: “كانت إذاعة صوت إسرائيل بالعربية قاعدة لكل شيء: مركزاً استخباراتياً لحرب نفسية، وكانت تعجّ برجالات الأمن والمخابرات. والمذيعون أمثال “داود الناطور” وهم شخصيات مفتاحية في الفيلم الوثائقي عاشوا في خوف دائم من قيام حكام العرب بقتلهم، بعد مهاجمتهم بمواد دعائية وفضح أكاذيبهم”.
يؤكد الفيلم الإسرائيلي إذاً، وبخلاف شهادة بروريا، أن الخوف رافقَ هؤلاء المذيعين اليهود المنتحلين لشخصيات عربية حتى آخر أيامهم، ولذا تحفَّظَ بعضهم من الحديث عن هذه المسألة، خاصة أن لديهم أقارب حتى اليوم في سوريا والعراق.