أحمد يوسف: خالد مشعل.. إطلالة ذكريات
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
على شاطئ بحر غزة المكبَّل بالحصار، جلست أتابع حركة الموج بلحنها الحزين، فيما عيناي ترنو بشغفٍ في الأفق البعيد.. كنت أحاول استجلاب ذكرياتٍ عزيزة تجاوز عمر بعضها الأربعين سنةً من العلاقة الأخوية مع الأستاذ العزيز خالد مشعل.
لقد تركت لخيالي أن يسرح ويمرح بعيداً، وأن يأتي لي بأكثر ما في هذه الذكريات إثارة واستحواذاً على مشهد معرفتي بهذا القيادي الإسلامي والزعيم الفلسطيني، الذي أَكنُّ له تقديراً واحتراماً كبيرين، وقد سطَّرتُ خلال ما مضى من السنين الكثير من التغريدات حول شخصيته القيادية ومآثره الأخوية والإنسانية، وما له من تجليات ونفحات في سياق المواقف الحركية والنضالية.
الأستاذ خالد مشعل في مسيرته الدعوية وانتمائه الإخواني له في نفسي مكانة خاصة، حيث تتصدر سيرته منزلة متقدمة مع ثلة أخرى من الإسلاميين الذين عرفتهم داخل ساحتنا الفلسطينية، أمثال الشيخ أحمد ياسين والشيخ عبد الله عزام والدكتور إبراهيم المقادمة والمهندس إسماعيل أبو شنب، والدكتور موسى أبو مرزوق والمهندس حسن القيق والشيخ إبراهيم أبو سالم، وغيرهم من القادة الأعلام؛ أصحاب النهج والأثر، ممن لا تكف ألسنتنا عن ذكر صفحات عطائهم، وتدعو لأحيائهم بظهر الغيب، وهم ممن جمعتنا بهم ساحات الدعوة والرباط في أرجاء بلدنا الحبيب أو في مهاجر الاغتراب في أمريكا وأوروبا، وكان لعددٍ منهم أيادٍ بيضاء وتأثير عميق على مسيرتنا النضالية، التي توشك أن تُطوى صفحاتها مع اقتراب أجل الرحيل.
همسات الشاطئ..
قلت في نفسي وأنا جالس بارتياح على الشاطئ، أداعب رماله بقدميّ، وألهو مع أمواج البحر بقذف حبات من الزلف باتجاهها: يا الله.. ما أقصر رحلة العمر، فهي تلوح من خلال شريط الذكريات كالوميض، وكأنها ثوانٍ معدودة!! فهذا المكان الذي اتربع على كرسي خشبي فيه اليوم، كان قد شهد قبل خمسة عقود سنوات طفولتي وشبابي، إذ كنا نأتيه كمتنفس وحيد لابتلاع فراغات أوقاتنا، حيث يطارد بعضنا بعضاً، ونقفز في الهواء بحركات بهلوانية، ونتمرغ على ترابه الناعم الناصع البياض، ونقضي ساعات جميلة في السباحة والجري، وننافس في مسابقة القوة والتحدي؛ من يسبق من في السباحة بعيداً داخل البحر، والعودة أولاً قبل رفاقه؟!
كان في يدي كوبٌ من الشاي أرتشف منه ببطء جُرعات بعدما فترت حدة سخونته، فيما عيناي تلاحق قرص الشمس وهو ينسحب بهدوء وجمال ساحر بعيداً خلف الأفق، متخذاً سبيله في البحر سرباً باتجاه المغيب.
لم تكن عملية استدراج الذكريات من الخيال ونظمها سطوراً على ورقة صغيرة كانت تداعبها رياح البحر في يدي بالعملية السهلة، ولكن كل ما كان يهمني من هذا الأمر هو الإمساك بطرف الخيط لمشاهدٍ كانت بمثابة محطات مهمة لي في مسيرتنا الأخوية ومشوار حياتي مع واحد من الشخصيات التي لها أكثر من بصمة وأثر في رحلتنا الدعوية ومهمتنا الرسالية، ورسمتْ في سنوات تسلمها للقيادة ملحمة الخلود لشعبنا الفلسطيني وحركتنا الإسلامية.
في ستينيات القرن الماضي، لم يكن يسكن عقولنا كإسلاميين إلا أننا طلائع جيل التحرير والعودة، وأننا رأس الحربة أو النفيضة في معركة الأمة مع المحتل الإسرائيلي الغاصب.. كانت أحلامنا يوم امتطينا صهوة خيول ذلك الزمان تمنحنا البشارة، وأننا سنشهد فيما تقدَّم من أعمارنا بعد عقد أو عقدين معركة “الفتح الكبير” لبيت المقدس، وأننا سنعيش -إذا حالفنا الحظ بطول العمر- لحظة الظفر وتحقيق الانتصار، وننعم بمشاهدة الديار وقد تحررت باندحار الغزاة الصهاينة، وارتفاع رايات التمكين لأمتنا في كل مكان من أرض فلسطين.
نعم؛ يمكننا القول بأن بعض أحلامنا قد تحققت، فيما بعضها الآخر قد أنكفأ وتعثر، واكتسى -للأسف- بشيء من خيبات الأمل، لكنَّ ما كان يؤنسنا أنَّ واقع الحياة ليس مثالياً كالخيال، وأن الوعي بحركة التاريخ، سيقودنا للتسليم بأن ما هو واقع اليوم إنما هو في جوهره خلاصة الصيرورة وحقيقة المآل.
الشاطئ مشفى الهموم والأحزان!!
لقد تعودنا سماع مقولة: عليك بالبحر فعلى شاطئه يصفو الكدر وتنقشع الهموم.. وهذا ما كان حالي، كلما حططت على شاطئه رحالي، وأطلقت لخيالي العنان.
البحر اليوم هو متنزه كل الفلسطينيين؛ لذا فإن شاطئه مكتظ بزحمة المصطافين، ولمن هم في مثل حالي من أهل الخلوة والهدوء تَحمُّل ضجيج مثل هذا التدافع والزحام. كنت مستغرقاً أُقلب سجل الذكريات، وكان هناك بين الفنية والأخرى ما يقطع خلوتي من أصوات الباعة الجائلين، ومن يفاجئني من الأصدقاء ومعارف الجيران بطرحه للسلام، ويسأل: كيف حالك يا دكتور؟ ثم يمضي. وكان هناك من يتوقف قليلاً للمجاملة واحترام المقام، ويسألني والابتسامة تكسو تجاعيد وجهه: والله شكلك سرحان يا دكتور.. “اللي وأخذ عقلك يتهنى به”!!
في الحقيقة، كانت بعض كلمات المارة ومجاملاتهم تهزني لأصحو من غفوة الذكريات، والابتعاد للحظات عن مشهد الرجل الذي كان حلم يقظتي لكثير من الوقت على الشاطئ.
لم يبخل القلم عن تسجيل لقطات ما جمعناه من خيال الذكريات.. وحين شعرت أنني قطعت في حلم يقظتي ما يكفي من المشاهد لتخليد الصورة، التي أود أن أتركها لأجيال قادمة عن أحد شخصيات العمل الإسلامي، الذين سبق لي أن تعاملت معهم، وأسرني بأخلاقه وأدبه وبسجية الوفاء التي لمسها فيه كل من عرفه من المقربين الأخيار.
عدت إلى البيت، بعدما ألقى الغروب بظلمته على المكان، وجلست أنتقى من أطايب ما جمعت من الذكريات ما يمكنني سرده من المحطات، التي مثَّلت بالنسبة لي أهم لقطات العلاقة مع الرجل، الذي أسال الله أن يسدد خطاه، وأن يجمعنا به في عليين على أنغام الصالحين من إخوانه وأهازيجهم: “فتنت روحي يا شهيد”.
خالد مشعل كلمات وذكريات
كانت أول مشاهد الذكريات هي ذلك اللقاء التعارفي بالأخ خالد مشعل في أمريكا خلال صيف عام 1983، حيث قدم من الأردن مع أخوين آخرين من قيادة “تنظيم بلاد الشام”، هما المهندس أحمد قطيش والشيخ محمد أبو فارس (رحمهما الله) كوفد لإصلاح ذات البين بين إخوان أمريكا.
وقد بذل الوفد خلال فترة إقامته بيننا جهداً مشكوراً لتقريب القلوب، وكان لحضور الأخ خالد مشعل كقيادي شاب كبير الأثر في تلطيف الأجواء، وعودة المياه إلى مجاريها بين الإخوان.
أما المشهد الثاني الذي التقطته الذاكرة، فهو ما أعقب اعتقال د. موسى أبو مرزوق في أمريكا، وتشكيلنا هناك لجنة للدفاع عنه، وكان تواصلنا معظم الوقت مع الأخ خالد مشعل، والذي كان يشغل تنظيمياً -حينئذ – موقع الرجل الثاني، والأول مع غياب د. أبو مرزوق معتقلاً في “غيابت الجب” الأمريكي.
لم أشهد للرجل خلال تلك الفترة إلا كلّ موقف كريم، حيث عمل بمسؤولية عالية لتذليل كل العقبات التي كانت تعترض عملنا؛ سواء أكانت مالية أو حركية.
كان الأخ خالد مشعل صاحب نخوة ووفاء، وتعامل بروح الأخ الكبير الذي تعهد بتغطية كل احتياجات القضية من مستحقات المحامين ومتطلبات الأنشطة الإعلامية للتعريف بالقضية وبالمظلومية التي لحقت بأخينا الكبير د. أبو مرزوق.
كانت الإشكالية الوحيدة التي صدمتنا في تلك الفترة الحرجة من مجريات القضية، هي الإعلان عن انتخاب الأخ خالد مشعل رئيساً للمكتب السياسي بدلاً عن د. أبو مرزوق؛ المعتقل في أمريكا بانتظار المحاكمة.
لم نكن في أمريكا نعرف تفاصيل ما حدث، وكيف اتخذ قرار تلك الانتخابات، والمبررات التي ساقت لإجرائها، إذ تمَّ النظر للمسألة -آنذاك- بأنها بمثابة طعنة في الخاصرة مسَّت بمكانة د. أبو مرزوق وحصانته، إذ كان منصب “رئيس المكتب السياسي” يمثل درعاً واقياً يمنع الإدارة الأمريكية -بقوة القانون- من ترحيله إلى إسرائيل. وعند مراجعتنا للأخ خالد مشعل بعد سنوات طويلة عن تلك الخطوة، والتي صاحبها جدل واستهجان الكثير من إخوان أمريكا، أوضح الرجل لنا الموقف بصيغة تفهمناها فيما بعد، وهي لا تمت لكثير من الهواجس والشكوك التي انتابتنا، واستحوذت على طريقة تفكيرنا وتحليلاتنا لسنوات في أمريكا.
كان المشهد الثالث الذي فرض نفسه على شريط الذكريات، هي محاولة الاغتيال الفاشلة للأخ خالد مشعل في الأردن من قبل الموساد الإسرائيلي، ونجاته بأعجوبة من الموت، وملحمة البطولة في مطاردة الجناة والتعرف عليهم.
لا شكَّ أن مشهد الأخ خالد مشعل وهو ممدد على سرير المستشفى في غيبوبة كان مقلقاً لنا جميعاً، إلا أن القضية انتهت بإجبار اسرائيل على الاعتذار للملك حسين (رحمه الله) عن العملية، وإحضار الدواء (الترياق) الذي أعاد للأخ خالد مشعل حيويته والنجاة من الموت، وقد تمت استجابة نتنياهو كذلك لطلب الملك حسين بإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين من السجن، والسماح له بالسفر إلى الأردن لتلقي العلاج، واللقاء بقيادة الحركة في الخارج، وزيارته للعديد من البلدان العربية والإسلامية بدعوات رسمية.
كان لقاؤنا في لبنان على هامش المؤتمر التأسيسي لمؤسسة القدس الدولية عام 2000 هو أيضاً من بين المحطات التي سجلتها الذاكرة، إذ جمعنا بالأخ خالد مشعل لقاء مقتضب في بيروت، ثم كان هناك بعد عدة أيام لقاء آخر وحديث خاص معه في دمشق، حيث كان اللقاء فرصة للمراجعة والعتاب؛ لأننا اشتممنا سلوكيات تنظيمية غير مألوفة في ثقافتنا الحركية وأديباتنا الإسلامية، وأن هناك “مكيدة أو شبه مؤامرة” تُحاك في الخفاء للإضرار بالموقع القيادي لأخينا د. أبو مرزوق. أوضح لنا الأخ مشعل موقفه مما كان يُشاع، وقدَّم رأيه بروح الحريص على أخيه ومكانته التاريخية كأول رئيس للمكتب السياسي للحركة، مشيراً إلى أن هناك لجنة قيادية عليا من إخوان مصر ولبنان والأردن تحقق في الأمر، وقد انتهت القضية بالحكم لصالح الأخ د. موسى أبو مرزوق، وتجنيب ساحة الأخ خالد مشعل من أية اتهامات.
أما المشهد الذي لا يغيب عن الذاكرة، واعتبره أحد مشاهد الحضور الدائم معي للتأكيد على وعي الرجل المبكر وفطنته السياسية المتقدمة، فهو ذلك اللقاء الذي جرى في دمشق بعد عام تقريباً من فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في يناير 2006 وتشكيلها للحكومة الفلسطينية العاشرة، حيث تحدثنا طويلاً حول ضرورة أن تجري حركة حماس مراجعات حقيقية لميثاقها بعدما صرنا في الحكومة، وشرع الصهاينة في توظيف لغة الميثاق المتشددة في بعض نصوصها لإلباس حركة حماس ثوب الشيطان واتهامها بالتطرف والإرهاب.
كان الأخ مشعل من أكثر المتجاوبين مع ما كنا نطرحه عليه من أفكار، وكان يشاركني الحوار معه من حين لآخر الأخوان د. غازي حمد والنائب سيد أبو مسامح. لم يعترض الأخ مشعل على فكرة المراجعات وضرورتها، وخاصة ما يتعلق بميثاق 88، إلا أنه كان يحاججنا الرأي بأن المسألة تحتاج فقط لبعض الوقت، وحتى لا تُفهم مثل هذه الخطوة خطأ وفي غير سياقها بين صفوف كوادر الحركة وبعض قياداتها وأنصارها في الداخل والخارج.
نعم؛ أخذت هذه الخطوة أكثر من عشر سنوات لإنجازها، ولكن كانت هناك مواقف أظهرها الأخ مشعل تؤكد للمتابع بأن حركة حماس تجري تطورات في مشهد الحكم والسياسة، وأن التغيير قادم، وهو ما حصل قبل أن يغادر الأخ أبو الوليد قيادة المكتب السياسي للحركة في مايو 2017.
بالطبع لا يمكن لاتفاق مكة أن يبتعد بأحداثه عن الذاكرة، وكيف لعب الأخ مشعل دور رجل الدولة وصاحب الزمان في توقيع الاتفاق، والذي لم يستمر –للأسف- طويلاً؛ لأن هناك أصحاب مصالح وامتيازات كانت لها أصابع تعبث بها في الخفاء، بهدف إفشال الاتفاق، وتخريب العلاقة ليس فقط بين فتح وحماس فحسب، بل ومع السعودية التي كانت داعماً كبيراً للقضية ولحركة حماس. لقد حاول الأخ خالد مشعل برسالته التوضيحية لشرح ما حدث استعادة ثقة الملك عبد الله (رحمه الله)، إلا أن الأجواء قد لعبت على تعكيرها أطرافٌ من رام الله، وقامت بتخريب ما بيننا من ثقة، وما سبق أن أقمناه من تفاهمات، وفقدنا بذلك علاقتنا الاستراتيجية مع المملكة.
كان لقاء الرئيس كارتر في إبريل 2008 بالأخ خالد مشعل في دمشق، بعد لقاء سبقه في القاهرة، وكان لي شرف حضور جلسة اللقاء مع الأخوة د. محمود الزهار والنائب سعيد صيام (رحمه الله) والدكتور خليل الحيِّة. لقد كانت إطلالة اللقاء التي أظهرها الأخ خالد مشعل خلال استقباله وترحيبه بالرئيس كارتر أننا أمام رجل دولة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ.
بعد معركة (حجارة السجِّيل) عام 2012، وانتخاب مرشح الإخوان محمد مرسى (رحمه الله) لحكم مصر، انفتحت المطارات والمعابر للأخ خالد مشعل وإخوانه في المكتب السياسي للقدوم إلى غزة، ومشاركة أهلها فرحتهم بقهر الغزاة، وصمودهم ببسالة في وجه حصار المحتل الغاصب.
كانت زيارة وفد قيادات الحركة في الخارج وعلى رأسهم الأخ خالد مشعل تاريخية بكل معنى الكلمة، وكان مشهد الموكب والحشود الغفيرة مؤثراً وعاطفياً إلى أبعد الحدود، ويمنحنا شعوراً استثنائياً وكأننا في استقبال قادة الفتح المبين.
إن واحداً من اللقاءات المهمة التي قمت بترتيبها للأخ مشعل كانت في القاهرة في العام 2012، حيث التقى السيد جين دانيال روش؛ الدبلوماسي بالخارجية السويسرية، وكان اللقاء يهدف التعرف على رؤية حركة حماس وفكر الرجل الذي يمثل قيادتها. لقد قدَّم الأخ مشعل في إطار الرؤية كل ما يهم السياسي الأوروبي معرفته، والرد على كل التخوفات والادعاءات التي تحاول إسرائيل تسويقها في الغرب، من حيث شيطنة حماس واتهامها بالتطرف والإرهاب. لقد أبدي لي السيد جين دانيال بعد اللقاء إعجابه بالأخ خالد مشعل وبمرونته وعقليته السياسية المنفتحة.
خلال انتفاضات الربيع العربي تململت سوريا، وشهدت حراكاً شعبياً واسعاً ضد النظام وبأمل التغيير، أسوة لما جرى في تونس وليبيا ومصر. حاول الأخ خالد مشعل التواصل مع النظام وتقديم النصيحة بضرورة الابتعاد عن الحل الأمني، والدخول في المفاوضات للتعرف على مطالب الجماهير، إلا أن أجهزة النظام راهنت على الحل العسكري، مما دفع حركة حماس لاتخاذ قرارها التاريخي بمغادرة سوريا حتى لا تتهم بتأييدها ووقوفها خلف النظام في سوريا. شكَّل هذا القرار حالة ارتياح عامة بين الإسلاميين في دول المنطقة وبين كوادر حركة حماس بشكل عام، وهذا الموقف يُحسب للأخ مشعل؛ باعتباره يمثل رأس هرم البناء التنظيمي لحركة حماس.
ولعل الموقف الذي لا يمكن أن تُغيِّبه الذاكرة هو قولته الشهيرة في ندوة “التحولات في الحركات الإسلامية” بالدوحة عام 2016: “لقد أخطأنا..”، من خلال حديثه عن حماس في مشهد الحكم والسياسة، إذ قال: “إن الحركات الإسلامية الوسطية -بما فيها حركة حماس- ارتكبت خطأين: الأول المبالغة في الرهان على القوة الذاتية، والثاني وجود خلل في التعامل مع شركاء الوطن”. كان للكلمة صدى كبير في التعليقات الإعلامية؛ بين من استحسن منطق الصراحة، وبين من استهجن ولم يستوعب دلالات هذا الاعتراف.
كان الأخ مشعل بمكانته القيادية ربما الأول بين الإسلاميين الفلسطينيين في الإقرار بوجود خطأ أو أخطاء على مستوى الفهم والوعي بمتطلبات المرحلة من الشراكة، التي تفرضها حالة الحكم والسياسة. كانت تلك الكلمات “لقد أخطأنا..” هي في الحقيقة دعوة لفتح باب المراجعات، قبل أن يقع ما لا يحمد عقباه.
المشهد الأخير الذي شدتني إليه بقوة لحظات التأمل في شريط الذكريات هو الأخير، والذي منحني الفرصة لمعرفة الرجل -عن قرب- حق المعرفة، وذلك خلال فترة وجودي بالمستشفى في إستانبول، بعد إصابتي بفيروس كرورنا، ومكوثي هناك لثلاثة أسابيع في غرفة العناية المركزة، حيث كان أول المبادرين بالسؤال والاطمئنان عن حالتي الصحية، ومن أكثر المتابعين مع الأهل، وقد عمل بأصالته وكرمه المعهود مع آخرين على ما حفظ لنا المقام وستر الحال.
ومع ما جمعته الذاكرة من صيد الخاطر عن الأخ خالد مشعل، وما انتزعته من صور تراءت مع شقق الغروب خلال جلسة الشاطئ، كان المشهد الذي خلصت إليه بعد تتبعي لمعالم خطاه لأكثر من أربعين سنة هي أننا أمام “محارب” ما زال يقف برجولة شامخاً في الميدان، وفي كنانته الكثير من السهام لمغالبة من يستهدفوننا، ويحاولون بمكرهم استدراجنا بعيداً عن ساحة المعركة المفروضة علينا وعلى أمتنا، والتلهي بما لاح من لُعاعات الدنيا من الغنائم والأنفال.
أخي أبا الوليد.. مكانك كما عهدناك وعاهدناك هو “جبل الرماة”، فأنت بمآثرك وأخلاقك وحكمتك قلعتنا الأخيرة.