سنية الحسيني: حرب الأدمغة… الفلسطينيون ينتصرون من جديد
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
معارك كثيرة ومتنوعة وعبر السنوات يخوضها الفلسطينيون من أجل نيل حريتهم، قد ينتصرون فيها وقد لا ينتصرون، لكنهم ماضون في حربهم، دون هوادة أو تراخ، مبتكرون يفاجئون الآخرين بإبداعاتهم التي لا تنضب، رغم همجية محتلهم وقدرته الأمنية والاستخبارية والعسكرية الأعلى بين دول المنطقة.
بفرحة عارمة غمرت الشارع الفلسطيني عكستها مواقع التواصل الاجتماعي، وذكرت بافلام “الآكشن” الهوليودية، استقبل الهروب البطولي لستة أسرى فلسطينيين، معظمهم محكوم بالسجن مدى الحياة، خمسة منهم ينتمون لحركة الجهاد الإسلامي وواحد من قادة كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح. هرب المحررون الستة من سجن جلبوع، والذي تسميه مصلحة سجون الاحتلال وإعلامه بـ “صندوق الخزنة”، إشارة لاستحالة الهرب منه، والواقع ضمن مجمع سجن شطة على مشارف غور بيسان، والذي بُني عام ٢٠٠٤ وأُعيد تحصينه بعد محاولة هروب لم تنجح في العام ٢٠١٤.
نجح الأسرى الستة بالهرب من زنزانتهم المحصنة، القريبة من أسوار السجن، بعد حفر نفق مر من تحت تلك الأسوار والطريق الترابي الذي يحيط بالسجن. جاء ذلك الاختراق الأمني في سجن يعد واحداً من أحدث سجون الاحتلال وأشدها تحصيناً، حسب المعايير الدولية، وأكثرها صرامة من حيث المعايير الرقابية. اخترق الأسرى أرضية زنزانتهم الخرسانية المدعمة بشِباك فولاذية، وطبقة معدنية أخرى مثبتة بقوة أسفل أرضية تلك الزنازين، محمولة على أعمدة صلبة تفصلها عن الأرض حوالي ٢٠ متراً. حصل ذلك الهروب رغم أن إدارة السجن تمنع دخول الأدوات الحادة وحتى الملاعق الحديدية إلى داخل الزنازين. وطوال فترة الحفريات، لم تسمع أصواتها، ولم تكتشف الأدوات المستخدمه فيها، ولم يمكن العثور على أي أثر للرمال الناتجة عنها.
لم تُكتشف عملية الهروب في حينها، ولم تعرف إدارة السجن عنها الا بعد اتصال أبلغ عن وجود حركة غير مألوفة في محيط السجن. واكتشفت أجهزة الأمن التابعة لسلطات الاحتلال ملابس السجن التي تركها المحررون بالقرب من حفرة النفق التي خرجوا منها، الا أنها لم تتمكن من تتبع أثر المحررين، وتقر بعدم وجود معلومات استخبارية كافية. ويؤكد تعدد التكهنات التي طرحتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية هذه المقاربة، اذ إنها لا تعرف وجهة المحررين الستة بالضبط. وتشير تصريحاتها المتضاربة إلى اعتقادها بأن سيارة قد أقلت المحررين الستة أو بعضاً منهم، معتقدة أن عدداً منهم قد يكون اتجه ناحية الحدود مع الأردن أو باتجاه قرية درزية بالقرب من الحدود السورية أو باتجاه جنين مسقط رأس المحررين، بل هناك تكهنات أشارت إلى احتمال وصولهم أو عدد منهم إلى الأردن. ويؤكد الانتشار الواسع النطاق وعمليات التمشيط المكثفة والنشطة بحثاً عنهم، رجاحة تلك المقاربة.
واستغل المحررون الستة ثغرات أغفلتها إدارة السجن، والتي قد تكون محفزاً لأسرى آخرين للبحث عن ثغرات مشابهة تجلب لهم الحرية المنشودة. من أهم تلك الثغرات:
– وجود المخطط الهندسي لسجن جلبوع، على الإنترنت من قبل شركة الهندسة المعمارية المشاركة في بنائه، ما جعله في متناول من يبحث عنه. ورغم حجب ذلك الموقع الذي يكشف تفاصيل المخطط المعماري للسجن، كما تم نقل جميع الأسرى الآخرين منه، في أعقاب نجاح عملية الهروب، الا أنه لا يزال بالإمكان الوصول إلى مثل هذه المخططات ولسجون أخرى أيضاً عبر الإنترنت.
– بُني سجن جلبوع على ركائز أو أعمدة متينة، الأمر الذي يعني وجود جيوب هوائية في مواقع مختلفة أسفل مبنى السجن، ما سمح باستغلالها لتسهيل مهمة حفر النفق.
– لم يُجرِ حراس السجن عمليات التفتيش اليومية الروتينية على بعض الزنازين، خصوصاً في الجناح رقم ٢ الذي يضم الأسرى الأشد خطورة، حسب وجهة نظر إدارة السجن، والتي تضم زنزانة رقم ٥ التي نجح المحررون في الخروج منها، خوفاً من التصادم والاشتباك مع نزلائها، وهو ما سمح بعدم اكتشاف النفق داخل الزنزانة.
– حسب تعليمات سجن جلبوع، يتنقل الأسرى بين الزنازين كل ستة أشهر، الأمر الذي وضع سقفاً زمنياً للمحررين للانتهاء من مهمتهم في غضون تلك المدة.
– استغل المحررون عدم وجود دوريات تتحرك بشكل منتظم حول السجن، ما سهل نجاح مخطط الهروب.
واعترفت مصلحة السجون الإسرائيلية صباح يوم الإثنين الماضي بفشلها الاستخباري مستندة إلى عدة أسباب قد يكون أهمها، أنها سمحت بوجود أسرى من منطقة جنين في سجن جلبوع الواقع بالقرب منها، الأمر الذي يمكن أقاربهم من تقديم المساعدة لهم. ويجزم المحققون أن المحررين تواصلوا مع جهات من خارج السجن، عبر هاتف محمول تم تهريبه اليهم، في اختراق أمني آخر. كما تقر إدارة السجن باغفالها التشكك في الطلب الذي قدمه مؤخراً الأسير زكريا الزبيدي، من حركة فتح، للانتقال إلى زنزانة الأسرى الخمسة الآخرين، المنتمين لحركة الجهاد، وموافقة الإدارة على طلبه بعد ذلك، على الرغم من مخالفة ذلك لبروتوكول السجن، الذي ينص على عدم الخلط بين أعضاء المنظمات الفلسطينية المختلفة، خاصة أن ثلاثة من الخمسة أسرى التابعين لحركة الجهاد حاولوا الهروب في الماضي.
على مدار أكثر من نصف قرن من احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، تواصلت مساعى الأسرى الفلسطينيين للهرب أو لتهريب الهواتف أو الرسائل أو النطف لإنجاب الأطفال. ونجحت عدة محاولات هروب منذ عام ١٩٦٧من بين عشرات المحاولات الأخرى، جاء معظمها قبل توقيع اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣. حيث نقل الاحتلال بعد ذلك الأسرى الفلسطينيين من سجون كانت مبنية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة إلى أخرى داخل أراضي ١٩٤٨. وتمكن غسان مهداوي وتوفيق الزبن من الهرب من سجن «كفار يونا» عام ١٩٩٦، في أول عملية هروبٍ فلسطينية تتم عبر نفق. واستطاع ثلاثة أسرى آخرين الهروب من سجن “عوفر” عام ٢٠٠٣، بنفس الطريقة.
ما يميز عملية هروب الأسرى الستة هذه المرة نجاحها، فعلى الرغم من تكرار محاولات هروب الأسرى، الا أن معظم تلك المحاولات لم تتكلل بالنجاح، نظرا للنظام الأمني المميز الذي تمتلكه سلطات الاحتلال داخل السجون وخارجها. نجحت إدارة الاحتلال لسجن جلبوع وسجن شطة المجاور له في إحباط عدة محاولات هروب في الماضي، منها تلك المحاولة التي أحبطت عام ٢٠١٤، بعد أن تم اكتشاف النفق المجهز للهروب. وكانت قد أحبطت أيضاً عملية هروب مشابة لـ ٢٤ أسيراً وبنفس الطريقة، من سجن شطة في العام ١٩٩٨. كما تتميز عملية الهروب الجديدة أيضاً بتشابهها مع عملية “الهروب الكبير” والتي تم تنفيذها في شهر آذار عام ١٩٨٧، على يد ستة أسرى ينتمون إلى حركة الجهاد الإسلامي أيضاً، حيث نجحوا بالفرار من سجن غزة المركزي، عندما كان قطاع غزة يرزح تحت سلطة الاحتلال. وسجلت عملية “الهروب الكبير” في حينه نجاحاً نوعياً، بسبب اقتران نجاح عملية هروب الأسرى مع نجاحهم بالتخفي وعدم قدرة قوات الاحتلال بالوصول اليهم، على مدار خمسة أشهر، واصلوا خلالها عملياتهم الفدائية المكلفة للاحتلال. وعلى الرغم من تمكن قوات الاحتلال من اغتيال خمسة من الأسرى المحررين بعد ذلك، وتمكن السادس من الهرب إلى مصر، حفز استشهاد الأسرى الخمسة انفجار الانتفاضة الفلسطينية الأولى في وجه الاحتلال بعد شهرين فقط من عملية الاغتيال. وعلى إسرائيل الا تغفل العلاقة بين العمليتين، وتتعلم من دورس التاريخ.
يقف اليوم جميع الفلسطينيين قلباً واحداً ويداً واحدة لحماية هؤلاء المحررين الستة، فيكاد لا يخلو بيت فلسطيني من أسير أو محرر. ويقبع في سجون الاحتلال اليوم حوالي ٥٣٠٠ أسير، وهو رقم متغير، لأن سلطات الاحتلال تعتقل بشكل يومي عشرات الفلسطينيين من جميع أنحاء الضفة الغربية. ويتوزع الأسرى الفلسطينيون على ٢٣ سجناً ومعتقلاً ومركز توقيف، تصفها المؤسسات الحقوقية الدولية بالأسوأ على مستوى العالم. من بين هؤلاء الأسرى حوالي ٢٥٠ طفلاً يحرم القانون الدولي أسرهم، و٥٢٠ معتقلاً إدارياً، محتجزين بشكل غير قانوني لمدة ستة أشهر متجددة، بدون تهم أو أحكام محددة، تتجاوز مدة احتجاز بعضهم لأكثر من خمس سنوات. من بين الأسرى الفلسطينيين أيضاً، ١٣ أسيراً زادت سنوات اعتقالهم على ٣٠ عاماً، و٣٤ أسيراً أمضوا أكثر من ربع قرن في سجون الاحتلال. ويعاني عدد من الأسرى من أمراض مزمنة وخطيرة، دون أي متابعة صحية. ويرفض الاحتلال معاملة الأسرى الفلسطينيين حسب اتفاقية جنيف الثالثة، ولا يقر باحتلاله المستمر للضفة الغربية وقطاع غزة لأكثر من نصف قرن، الأمر الذي يعقد عملية حل قضية الأسرى الفلسطينيين ويزيد من معاناتهم ويطيلها إلى أمد غير معلوم. وأحيى نجاح عملية هروب ستة أسرى المخططة والمحبوكة بدرجة عالية من الإبداع الأمل بالحرية من جديد في قلوب الأسرى، وفتح الأفق أمام محاولات هروب مشابهة، قد تشهدها سجون الاحتلال في الأيام القادمة، وسجل نقطة لصالح الفلسطينيين في حربهم المفتوحة ضد الاحتلال.