تقارير

10 أشهر من الحرب.. حَكايا الفرار من الموت إلى ذُل النزوح

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

تقرير خاص: شيماء مقداد

“ماذا غيرت فينا الحرب؟ فهمنا درس الاختصار جيدًا، حين نختصر البيت في حقيبة، فصرنا أقل حملًا، أثقل وجعًا، أدركنا معنى الأولويات!”

هكذا وصفت أماني شنينو (33) عاماً، الخروج من الديار، بعد مرور 10 أشهر على اليوم الذي أصبحت تسمى بالـ “النازحة”، في حين ترى أنها أكثر حظاً – ربما – من غيرها، حيث استطاعت النجاة بحقيبة صغيرة، في وقتٍ لم ينجُ الكثيرين بأرواحهم.

تقول: ” استيقظت اليوم متعبة جدا، لم أستطع النوم، كان الليل ثقيلاً ومدججاً بالزنانات وصوت القصف، ليصاحبه صوت الكلاب، وخوفي من حشرة كبيرة تدعى “أم أربعة وأربعين”، كانت قد ظهرت لنا في الكونتينر الذي نسكنه كملجأ لنا، في نزوحنا السادس، انك في حرب موت وإبادة وحرب أعصاب، حيث محيط متعب، أعرف أنه يستحيل أن تجد أحدًا في كل غزة يشعر بالراحة ولو للحظة”.

كانت أماني، الصحفية، و الأم لثلاثة أطفال، تسكن في الطابق 13 في برج يطل على البحر، في أحد أرقى أحياء مدينة غزة، بيت لا ينقصه شيء، إضاءة، تكييف، وجميع الأجهزة، الأثاث مريح، والشبابيك كبيرة، وبلكون يطل على البحر، أمامها مساحات واسعة وخيارات متعددة للتنزه ولعب الأطفال، أما الآن، وبعد ٱن خسرت منزلها بسبب القصف، تعيش في كونتينر لا يشبه البيت بشيء، يتكون من غرفة واحدة، هي للطبخ وللنوم وللعب الأولاد، لا تستطيع دخوله قبل المغرب من شدة الحر فيه.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

أماني ليست وحدها، حولت الحرب 90% من سكان غزة إلى نازحين، يتكدسون في أماكن ضيقة يطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي عليها مسمى ” المنطقة الإنسانية”، فيرتكب مجازراً في الأماكن التي يطلب من السكان إخلائها بحجة أنها مناطق عمليات عسكرية خطيرة، ويرتكب مجازراً أبشع في المناطق التي يطلب من السكان الذهاب إليها مُدعياً أنها “آمنة”.

في تصريح له قال المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني، أن 14% فقط من قطاع غزة، تعتبر حالياً من المناطق التي ليست تحت أوامر الإخلاء الإسرائيلية، الأمر الذي يشكل خطراً كبيرا على حياة السكان والنازحين المتكدسين في أماكن ضيقة جداً، و يساهم في انتشار العديد من الأوبئة والأمراض المعدية.

حذرت منظمة الصحة العالمية من انتشار الأمراض المنقولة عن طريق المياه، والأمراض الجلدية المعدية بين الأطفال والعديد من الفايروسات الأخرى في أماكن النزوح، وعدم القدرة على السيطرة عليها في ظل نقص الأدوية الحاد، وعدم توفر التطعيمات الخاصة بها.

عبد الرحمن، (9) سنوات، أو كما تحب أن تناديه “عبود” هو الإبن الأكبر لأماني، أصيب بعدوى التهاب الكبد الوبائي، وأصبح جسده هزيلاً لايقوى على الأكل ولا المشي، تقول: “بعد أن تأكدت من إصابة عبود بالفايروس، اضطررت بعد عدم مقدرتي على المتابعة مع طبيب أن أبحث وأقرأ عن الفايروس واتبع الحمية بنفسي، وعلى الرغم من أنه فايروس مُعدي، لم أستطع عزله عن اخوته بسبب ضيق المكان، وللأسف نقل العدوى لهم”.

وفي تطورٍ خطير، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية، قطاع غزة منطقة وباء لشلل الأطفال، بعد اكتشاف وجود الفيروس المسبب له من نوع CVPV2، في مياه الصرف في محافظتي خان يونس والوسطى المتكدستين بالنازحين.

عاشت أماني حينها فصلاً آخر من الرعب حين أصيب أولادها الثلاثة بارتفاع كبير في درجات الحرارة، ولم تتمكن من إجراء أية فحوصات للتأكد من إصابة أطفالها بفايروس شلل الأطفال أو عدمها.

تضيف: ” في كل مرة كان يمرض أبنائي أشعر بعجز كبير، فمن حقهم أن يحصلوا على العلاج المناسب، لكنني عاجزة عن توفيره، وأقرب مستشفى يبعد عني مسافة طويلة و خطيرة جدا، وخاصة بعد اجتياح الاحتلال مدينة خانيونس من جديد”.

نجت أماني وعائلتها من الموت لمراتٍ عدة، وفي نزوحها للمرة السادسة، شهدت على صوت الموت القريب جدا خلال “مجزرة المواصي” البشعة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق للنازحين في الخيام غربي مدينة خانيونس، وقضى فيها أكثر من 90 ضحية معظمهم من النساء والأطفال، تقول: ” لماذا النجاة متعبة وثقيلة علينا في ظل الحرب؟ لأننا ننجو من الموت المحقق، لكن نموت مرات كثيرة مع كل فقد وقصف، مع كل نزوح، مع كل خوف، لأننا بعد أشهر من الحرب الدامية نتحول لأشخاص آخرين، تملؤهم الهشاشة والأرق”.

لم يكن طريق النزوح من مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة سهلاً بالنسبة إلى ريما محمود (35) عاماً، بل كان مُعبدًا بأصوات المُتعبين، المُنهكين من كثرة محاولات الفرار، طريق طويل امتد لـ 6 ساعات مشياً على الأقدام من منطقة عبسان الكبيرة شرقاً حتى مستشفى ناصر غرباً.

تغطية مستمرة.. تابعونا على قناة شبكة الخامسة للأنباء في تيلجرام

ريما التي تعمل كمخرجة أفلام وثائقية، عجزت عن تصوير المشهد ووصف مشاعر الخوف والرهبة ومحاولات النجاة، تقول: ” كان نزوحي هذه المرة مختلفاً، لقد نزحت تحت القصف المدفعي، وطلقات طائرات الكواد كابتر تمر من فوق رأسي ، المصابون ملقون في الشوارع، وكبار السن والمرضى يجرون أنفسهم جراً، سرنا بين أكوام الركام، وفوق المياه العادمة، كانت رائحة الموت تفوح من كل مكان “.

لم يكن هذا النزوح الأول بالنسبة إلى ريما، ففي كل مرة ينسحب بها الجيش الإسرائيلي من شرق مدينة خانيونس بعد عملية عسكرية، تعود لمنزلها في منطقة عبسان الكبيرة، لتهرب من ذُل النزوح، ووجع الاشتياق للديار، وبعد أيام يعلن الجيش الإسرائيلي عن عملية عسكرية جديدة، لتتكرر رحلة النزوح للمرة الرابعة وربما أكثر.

تضيف ريما: ” في هذه المرة لم يكن لدينا وقت كافي لنجمع احتياجاتنا، فمنذ تحذير جيش الاحتلال الإسرائيلي لسكان المناطق الشرقية الساعة 7 صباحاً، حتى موعد بدء العملية بعد ساعتين فقط، استطعنا الفرار بأرواحنا فقط، ولم نتمكن من جمع ولو حقيبة صغيرة من الملابس، أو الاحتياجات الضرورية”.

تجاوز عدد النازحين من مدينة خانيونس خلال أسبوع واحد فقط الـ 180.000 نازح، في وقت لم تبق فيه مساحات آمنة لاستيعاب هذه الأعداد الكبيرة، و لم يعد أمام النازحين خيارات واسعة، بعد 10 أشهر على النزوح المتواصل من كل المدن.

اضطرت ريما للافتراق عن أهلها في أصعب فصل من فصول النزوح، فعدم وجود مكان يتسع لكل أفراد العائلة جعلهم يوزعون أنفسهم على منازل و خيام الأقارب والأصدقاء من النازحين أيضاً، يطمئنون على بعضهم من خلال الهاتف.

في كل مرة يترك فيها النازح منزله، أو حتى خيمته التي اعتاد عليها قليلاً، يحمل في قلبه مشاعر يأس و عجز وغضب، فلا يستطيع التقبل ولا التأقلم على واقع كل الخيارات فيه صعبة وثقيلة.

معاناة مركبة وقصص نزوح فصولها معقدة ومؤلمة، تبدأ بترك منزلك خلفك بكل مافيه، لتبحث عن أمانٍ ضائع، يتخلل ذلك جرعات كبيرة من الذل، الاحتياج، الجوع المرض، ونوبات متكررة من الحزن والخذلان والاشتياق لكل ما كان.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى