الرئيسيةحكايا في زمن الحرب

حكايا في زمن الحرب.. آنسات الحارة الصغيرات و قلب الأب المفطور

"نحن نموت بقبض الروح مرة، وبالفقد مرات ومرات، لنكمل ما تبقى من أعمارنا بقلب ميت، بلا روح، وحياة لا تشبه الحياة."

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

إعداد: شيماء مقداد

في خيمة صغيرة داخل أحد مراكز الإيواء – المدارس-المكتظة بالنازحين، يرقد محمود المبحوح (35 عامًا) وحيداً حاملاً في قلبه أشد أنواع الألم، أما زوجته “حنين” طريحة فراش المستشفى تعاني ألم الإصابة ووجع الفقد.

كان محمود يُعرف في الحي بأنه بطل مجتمعي، عمله كمنسق مشاريع في جمعية الثقافة والفكر الحر أكثر من مجرد وظيفة؛ كان التزامًا بدعم الناس في أوقات المحن، وتعزيز صمودهم في وجه العدوان الإسرائيلي، لكن ما لم يكن يعلمه هو أن هذا العدوان سيأخذ منه أغلى ما يملك.

لم يستطع محمود بكل كلمات الدنيا أن يصف شكل حياته بعد فقدانه بناته الأربعة، وكانت كل منهن تُشكل جزءًا من روحه، جزءًا من حياته التي لم تعد تشبه الحياة، فبقي عالقاً في ذلك اليوم الأسود.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

“أجمل العطايا الربانية، المؤنسات الغاليات، مهجات الروح، فرحة العمر، ريحانات القلب، ياسمينات الفؤاد، لأنهن مميزات رغم صغر سنهن أطلق عليهن جيراننا لقب (آنسات الحارة الصغيرات) “

فجر 10 يونيو 2024، استهدف قصف إسرائيلي غاشم منزل محمود بينما كان الجميع نائمين، طارت أجساد البنات الثلاث، ميرنا (10 سنوات)، ياسمينة (8 سنوات)، وجنة (5 سنوات) إلى جيرانهم في الجهة الجنوبية، أما الطفلة ريمي، التي لم تكمل الخمسة أشهر بعد، فقد طارت مع والدها ووالدتها إلى الجهة الشمالية.

استفاق محمود ليجد نفسه وسط نيران ودخان، محاولًا استيعاب ما حدث. في تلك اللحظة، أدرك أنه فقد أغلى ما يملك (آنسات الحارة الصغيرات). حاول الاستماع إلى صرخات بناته لكنه لم يسمع شيئًا، فتيقن أنهن لم ينجين، بحث بعينيه عن زوجته حنين، ليجدها مطروحة على بعد أمتار، تصرخ بألم: “بناتي، بناتي!”

الألم لم يتوقف هنا، طلب محمود من الجيران ممن ركضوا لإسعافه إحضار ريمي ليراها، رفضوا في البداية، لكن إصراره دفعهم لإحضارها، أمسك بها و شعر بحرارة جسدها الصغير، حاول إنعاشها بكل ما يملك من قوة، لكن أنفاسه كانت تدخل من فمها وتخرج من مكان آخر في جسدها الممزق!
في تلك اللحظة، أدرك محمود أن الأوان قد فات، ماتت قطعة من روحه مع صغيرته التي ولدت في الحرب، و رحلت فيها.

عندما وصل الإسعاف، حمل الجيران زوجته المصابة، وأرادوا حمل محمود للخروج، لكنه طلب منهم أن يبحثوا عن بناته الثلاث (ميرنا، ياسمينة، جنة) فطأطأوا رؤوسهم في صمت. عندها، شعر محمود برعب الفقدان، وصاح فيهم: “مالكو ساكتين؟” فأجابوه بصوت مليء بالحزن: “الله يرحمهم.”

“من أول ما بلشت الحرب على غزة أكثر اشي كان يرعب قلبي شعور الفقد، خاصة لما أطلع من بيتي على شغلي، أو لما يجيني اتصال من جيراني وأنا برا البيت، كان يهوي قلبي في سابع أرض.”

أصيبت حنين بجروح متعددة، وكسور في جميع أطرافها وحوضها، إلى جانب جرح عميق في الفخذ وتهشم عظم الركبة، ما اضطر الأطباء لبتر قدمها اليمنى من أعلى الركبة، للحفاظ على حياتها ومنع تسمم الدم. بالإضافة إلى ذلك، كانت مصابة بحروق في أنحاء متفرقة من جسدها، وشظايا مستقرة في الكتف، بينما تعرض محمود للعديد من الجروح والحروق، و فقد القدرة على السمع في أذنه اليسرى.

دفن محمود بناته الأربع، (جنة وريمي) في ذات القبر مع أخيه الشهيد حسن، الذي استشهد عام 2002. أما (ياسمينة وميرنا)، فقد دفنهما في قبر والده.

في يوم الدفن، ودع محمود (جنة وريمي) فقط، ولم يسمحوا له بوداع (ياسمينة وميرنا) لتبقى صورتهم الجميلة هي العالقة في ذهنه، بسبب تشوه أجسادهما بشكل كبير، خاصة في الرأس والأطراف.
.

“غزة هي جزء من فلسطين، هي قضيتنا اللي بذلنا ولسا مستعدين نبذل عشانها كل شيء، أكيد بنحبها، ورح نكون إيد تبني فيها.”

محمود المبحوح، الرجل الذي فقد كل شيء، لم يتوقف عن توثيق الجرائم ونشر قصص الحرب على غزة، على أمل أن يجد العدالة لعائلته وشعبه، إنه مثال للصمود والإنسانية، رجل فقد كل شيء لكنه لم يفقد إرادته في الاستمرار.

لم يتوقف حب محمود لغزة، على الرغم من كل هذا الألم، قصته ليست مجرد حكاية رجل فقد بناته، بل هي قصة حب عميق لوطنه، قصة مقاومة وصمود في وجه الظلم والعدوان، قصة قلب مات من الفقد، لكنه ينبض بحب غزة والأمل في بناء مستقبل أفضل.

تغطية مستمرة.. تابعونا على قناة شبكة الخامسة للأنباء في تيلجرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى