مقالات الخامسة

أحمد يوسف: التكايا الشعبية سندان الصمود: هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH) نموذجاً!!

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

كانت بداية معرفتي بهيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH) بعد الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة في ديسمبر 2008، وإن كانت سمعة هذه الهيئة في العمل الإغاثي الإنساني بدأت بالظهور منذ أكثر ثلاثين عاماً بعد مجازر الصرب في البوسنة مطلع التسعينيات والتي تمثلت بحملات التطهير العرقي والإبادة الجماعيةفي سربرنيتسا ضد المسلمين البشناق.

واليوم، ومع الحرب الإسرائيلية العدوانية التي أعقبت معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، أعلن نتنياهو حربه البربرية على الفلسطينيين في قطاع غزة، حيث بدأت تتجلى مظاهر المعاناة والجرائمالإنسانية في قطاع غزة.. وعلى إثر ذلك، هبت العديد من الجمعيات والمؤسسات الإغاثية من مختلف دول العالم لنجدة الفلسطينيين بالقطاع، وتقديم الدعم الإنساني لمن هم ضحايا هذه الحرب العدوانية. كان من صلاحيات عملي -آنذاك- كمستشار لرئيس الوزراء ووكيل وزارة الخارجية للحكومة في قطاع غزة متابعة شؤون هذه البعثات الدولية الإنسانية، وتقديم التسهيلات اللازمة لعملها بالقطاع.

كانت هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH) واحدة من بين هذه المؤسسات الدولية الكبيرة، من حيث طواقم عملها ومساحات تحركها في المجالات الإغاثية والطبية والإعلامية.. ونظراً لصعوبة الوصول إلى مدينة غزة، بسبب إغلاق الطريق بالدبابات الإسرائيلية، قمناباستضافة وفد الهيئة المكون من أكثر من 15 شخصاً في الفيلا الخاصة بالعائلة بحي الجنينة شرق مدينة رفح، وقد أصبح المكان مقراً لعمليات الوفد ونقطة التحرك الرئيسية إلى الشمال باتجاه مدينة خانيونس والمستشفى الطبي المركزي فيها.

نجح وفد الهيئة (IHH)، الذي كان من بين أعضائه مستشار الحكومة للشؤون الإنسانية، في إدخال الكثير من المساعدات الطبية والمواد التموينية والعديد من سيارات الإسعاف في حملة هي الأكثر إنسانيةً على مستوى العمل الخيري والإغاثة الدولية، وهو ما أعطى لهذه الهيئة اسماً تمَّ حفره في الذاكرة الفلسطينية بشكل متميز لن يغيب أبداً ولن يُنسى.

كان من بين الأسماء التي فرضت حضورها فيمن تصدروا عمل هذه الهيئة الدولية السيد بولنت يلدريم؛ رئيس الهيئة، والسيد محمد كايا؛ مدير مكتبها في قطاع غزة.

وعندما وضعت تلك الحرب أوزارها، قررت الهيئة (IHH) فتح مكتبٍ لها في غزة، مع عدد من المكاتب الفرعية التعليمية والتدريبية في مجال تعليم الكومبيوتر والخياطة والتطريز، إضافة لرعاية آلاف الأطفال اليتامى.

لم تتوقف أنشطة الهيئة (IHH) وجهودها الإنسانية عن عملها الإغاثي ورعايتها للأطفال اليتامى وأبناء الشهداء منذ تأسيس مكتبها بالقطاع عام 2009، وظلت تقوم بواجبها بحضور إغاثي وإنساني منذ ذلك الوقت.

ومع الحروب العدوانية العديدة التي تعرض لها قطاع غزة، حافظت الهيئة الإغاثية التركية من خلال مكتبها في القطاع على تقديم مساعداتها الخيرية لمنكوبي هذه الحروب المتكررة، ولعل الكثير من جرحى هذه الحروب قد تلقوا علاجات طبية لهم في المشافي التركية.

علامة فارقة في العمل الإغاثي

في مشهدية الحروب وأشكال العدوان الذي تعرض له قطاع غزة، كانت هيئة الإغاثية الإنسانية التركية (IHH) تمثل أيقونة و”علامة فارقة” في العمل الإغاثي على المستوى الإنساني العالمي، ولها الكثير من المشاريع التي أعادت فيها بناء ما تهدم من منازل المواطنين جراء هذه الحروب العدوانية، وإعادة إعمار العديد من المدارس، والإشراف على ترميم الكثير من المرافق الدينية والثقافية والخيرية.

وبخصوص الحرب التي ما تزال تدور رحاها في قطاع غزة حتى الآن، والتي تبنت فيها حكومة نتنياهو سياسة الإبادة الجماعية، والتضييق على عمل الجمعيات والمؤسسات الدولية واستهداف مقراتها وأذرعها الإنسانية الميدانية.

وبناءً على مشهدية هذا الواقع من البربرية والفاشية الصهيونية، تعرضت هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH) هي الأخرى للكثير من الأضرار التي مسّت مقراتها وطواقم عملها، وقلَّصت مساحات حركتها وإن ظلت تقدم خدماتها الإغاثية، متحدية مضايقات الاحتلال بمنع وصول طواقمها وتكاياها إلى النازحين بمختلف مناطق قطاع غزة في الشمال والجنوب.

ونظراً لانعدام التواصل بين مدن القطاع، وصعوبة التواصل أحياناً بين مناطق النزوح، اضطرت الهيئة للتوسع في علاقاتها عبر الانفتاح على جمعيات أخرى دولية ومحلية، لإيصال مساعداتها لأكبر عدد من هؤلاء النازحين، الذين تناثرت خيامهم على مساحات شاسعة من مدن القطاع وبطريقة عشوائية يصعب ضبطها، حيث لا أماكن إنسانية آمنة بعد أن تجاوزت إسرائيل في سياسة الإبادة الجماعية كل الأعراف والقوانين الدولية، مرتكبة كافة أشكال الجرائم بحق الإنسانية.

إن واحداً من مراكز الإيواء التي جرى فتحها بمدينة رفح في حي تل السلطان كان “مخيم منتزه النخيل” بمساعدة تركية قدمتها مؤسسة (IHH)، حيث قامت بتزويد التكية الرئيس بالمخيم، التي تديرها مؤسسة (بيت الحكمة) بالميزانية التشغيلية لرعاية أكثر من500 عائلة (حوالي 3000 فرد)، أقامت خيامها بمنتزه النخيل والمنطقة المجاورة له، مع من حطوا رحالهم بجوار أقاربهم في المخيم وبعض المؤسسات الخدمية بالحي.

استمر النازحون بالمخيم في استقبال وجبات التكية العائلية منذ الشهور الأولى للحرب وبشكل يومي، إلى أنقام الجيش الاسرائيلي باجتياح مدينة رفح وخاصة حي تل السلطان، مما دفع أكثر من مليون وربع المليون من النازحين والمقيمين بالمدينة من مغادرتها إلى المنطقة الوسطى في دير البلح والزوايدة والنصيرات كذلك مواصي خانيونس المجاورة.

على عجلٍ، تحركت الجهة الراعية للتكية بالبحث عن مكان بديل وسط النازحين بمنطقة المواصي لمواصلة عملها الخيري التي تعهدت به هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH).

قامت الجهة المحلية المشرفة على التكية في مؤسسة بيت الحكمة بنقل ما استطاعت من أساسيات التكية بحي تل السلطان ونقلها إلى المقر الجديد بمنطقة المواصي، وأخذت بمباشرة عملها في تقديم الطعام العائليللنازحين الجدد ومن جاورهم في المخيم، الذي أطلق عليه منتزه النخيل (2).

في هذه المنطقة من مواصي خانيونس تجاوزت أعدادالنازحين أكثر من مليون نازح، حيث كادت الخيام تحاصر مشاهداتها العيون من كلِّ اتجاه حتى المشاطئة منها للبحر.

بدأنا مع الأيام الأولى للنزوح التكيف مع الحالة الجديدة، فبعد أن كنا نرعى النازحين لأكثر من سبعة شهور في منطقة حي تل السلطان، صرنا الآن مثل باقي النازحين في منطقة المواصي، وعلينا تقع مسؤولية متابعة شؤوننا العائلية، ولكن علينا في الوقت نفسه أن نستمر في رعاية هؤلاء النازحين والقيام بواجب تقديم الخدمة الإنسانية لهم.

الإدارة المركزية في إستانبول: دعم مستمر وإسناد

في الحقيقة، وجدنا في الجهة المشرفة على هذا العمل الإغاثي بمقر الهيئة الرئيس في إستانبول كلَّالتشجيع للاستمرار في عملنا الدؤوب، خاصة وأن الحرب لم تضع أوزارها بعد، وحجم الكارثة الإنسانية يزداد اتساعاً ومسؤولية، وقد تعمدت إسرائيل فرض المجاعة على النازحين في الشمال والجنوب، وتبدىالمجتمع الدولي في حالة من العجز والقصور على اتخاذ القرارات التي تجبر إسرائيل على وقف حربها العدوانية،وفك الحصار المفروض على قطاع غزة.

كانت التكايا الشعبية التي ترعاها جمعيات محلية خيرية في حالة من عدم الأهلية والقدرة لسدّ حاجيات هذه المئات من الآلاف من النازحين.. ولذلك، أخذت تظهرالأهمية القصوى لمثل هذه التكايا الشعبية بتراثها العثماني، والتي تتلقى مساعدات مالية أيضاً من جهات إسلامية وجمعيات خيرية من عدد من الدول العربية والإسلامية ومن الجاليات المسلمة في الغرب.

ومع إطالة أمد العدوان وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة وانتشار مراكز الإيواء في كل مكان، تعالت مكانة الهيئة الانسانية التركية (IHH) بشكل لافت للنظر إلى جانب مؤسسات أخرى مصرية وإماراتية وقطرية وسعودية، تضافرت جهودها الإنسانية للحفاظ على الحد الأدنى من كرامة هؤلاء النازحين الفلسطينيين، إذأصبح قطاع غزة كله يقطن الخيام، ويعتمد بالكلية على ما يصله في غالبيته من هذا التكايا الشعبية، والتي من بينها وعلى رأسها هيئة الإغاثة الإنسانية التركية، والتي توزعت مواقدها لطهي الطعام بالقرب من خيام الكثير من النازحين.

لن نشير فقط لمستوى الدعم المالي الذي تقدمه الهيئة التركية للإغاثة الانسانية، بل كذلك بهمّة وجهود كل المجموعات الإغاثية التي عملت معها أو تلقت منها المساعدة والدعم، فقد شكلَّت هذه العناوين الإغاثية الإنسانية مجموعة عمل تواصلت عطاءاتها وتكاملت مع الجهة المركزية للهيئة، والتي حاولت احتضان هؤلاء المشردين، وتوفير ما تتطلبه الإغاثة الإنسانية من مساعدات كثيرة، لعل أهمها الطعام والشراب والأغطية من ملابس وخيام.

وفي مشهدية ما تقوم به التكايا من وجبات غذائية عائلية رئيسية، كانت التكايا الشعبية (العثمانية) هي الأوسع انتشاراً وتغطيةً للحاجات التي على رأسها وجبة الغذاءالعائلية، والتي استمر مخيمنا الأول في حي تل السلطان يقدمها للنازحين فيه، وأيضاً مع انتقالنا لمنطقة المواصي، وإعادة فتح المخيم في نسخته الثانية لأكثر من 500 عائلة في المخيم وما حوله من جوار.

ومن حقائق واقع النزوح، إن وقف اتساع نطاق خدمة النازحين مرتبط بعدم توافر ما تتطلبه هذه المسؤوليات من ميزانية ضخمة وطواقم عمل تتعاظم مع تزايد الآلاف من النازحين يوماً بعد يوم.

وفيما الحرب أحالت سكان قطاع غزة إلى نازحين موزعين في مئات المخيمات ومراكز الإيواء الممتدة من الشمال إلى الجنوب، تظل التكايا العثمانية الشعبية أهم شرايين الحياة لإمداد من تقطعت بهم السبل من هؤلاء النازحين بمقومات الصمود والكرامة الإنسانية من وجبات الطعام الغذائية العائلية، والتي تصل لعشرات الآلاف منهم.

ورغم أن تركيا ودول عربية وإسلامية أخرى كمصر والإمارات وقطر تقدم هي الأخرى مساعداتها على هيئة طرود غذائية ومواد تموينية، تسهم جميعها في تعزيز سندان الصمود لهؤلاء النازحين، وحث جموعهم على الثبات على أرضهم، ومقاومة مخططات التهجير القسري والتآمر الغربي لتفريغ الأرض من أهلها الفلسطينيين لصالح المشروع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي،الذي ترعاه الصهيونية الدينية والحكومة اليهودية الفاشية في إسرائيل.

التكايا.. المدد والصمود

سيظل الفلسطينيون في قطاع غزة بصمودهم قادرين على إحباط كل ما يمكر به نتنياهو واليمين المتطرف لاقتلاع أصحاب الارض الأصليين من أرضهم وديارهم..وتبقى عطاءات الدعم والمساعدة التي ترعاها تكايا هيئات خيرية إنسانية تركية وعربية هي السندان التي تتحطم عليه كلّ محاولات كسر إرادة الفلسطينيين أو تفتيت وحدة صمودهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى