تقاريرثابت

ماذا خسر الغزيون خلال عام من الحرب..؟!

عامٌ أكلت فيه العجافُ السِمان.. حربُ غزة.. تحرق الماضي والحاضر والمستقبل

تقرير خاص: آمنة غنّام

عامٌ من الفقد والوجع والحسرة، خسر فيه الغزيين الماضي والحاضر والمستقبل، حين أصابت الحرب بسهامها كل البيوت، واستمرت آلة القتل الإسرائيلية طحن أحباء وذكريات الفلسطينيين دون هوادة.

جولةٌ سريعة في مخيمٍ للنازحين، كفيلة بأن تثبت لك أن هذه الحرب لن تنتهِ بمجرد أن تضع أوزراها، وأن حرباً أخرى ستبدأ حين يحاول الغزيين لململة أوجاعهم و مواصلة الحياة.

هروب من الموت

يستظل من الشمس الحارقة، في ظل خيمته المهترئة من كثرة الرحيل، يعبث في الرمال ونظره شاخص لا يلوي شيئًا، وكأنه يحدث الأرض بما شهده خلال عام لم يُبقِ ولم يذر.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

المزارع أبو أحمد أبو طعيمة، من مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، ترك أرضه وبيته ومحصوله الزراعي الذي يمثل قوت عائلته، بعد أوامر الإخلاء الاسرائيلية، حيث يقطن شرق المدينة بالقرب من الشريط الحدودي الفاصل مع أراضينا المحتلة.

يقول:” عندما بدأ القصف المدفعي، اضطررنا للفرار هرباً من الموت، حملنا ما استطعنا حمله، لم يمهلنا القصف الشديد أن نأخذ أغراضنا، فكانت أرواحنا أثقل ما فررنا به، وكأنها أهوال يوم القيامة، في هذه اللحظات، استشهد شقيقي وعائلته ، واستشهد زوج ابنتي “.

عاد أبو أحمد لاحقا لمكان سكنه ليجد بيته قُصِف، وأرضه احتَرقَت، ومحصوله الزراعي بات عصفًا مأكولًا.

رحيل الرفيق

أم يامن جبر (٣٤ عام) قصة وجع أخرى من شمال قطاع غزة، سلب منها هذا العام كل شيء، تختنق في مقلتيها العَبرات وهي تقلب في هاتفها بين صور لأشخاص وذكريات، تقول:” نزحت من الشمال إلى الجنوب، وحيدة دون سند، بعد القصف الشرس الذي طال كل شيء في المدينة، وصلنا سيراً على الأقدام إلى حاجز نتساريم، و عبرنا الحلابات (نقاط التفتيش) الإسرائيلية، ولم يسمح لنا جيش الاحتلال بأخذ سوى حقيبة واحدة، كان خوفي على أطفالي يفوق الوصف، دبابات الاحتلال أمامنا، وأسلحته موجهة علينا”.

وصلت أم يامن مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، وبقي زوجها في شمال القطاع، لتقيم في أحد مراكز الإيواء، تحسبُ الأيام لتنتهي هذه الحرب، أصيب أطفالها بالأمراض، وفقدت أدويتها، واضطرت لبيع المعلبات التي كانت تصلها لتستطيع توفير احتياجات أطفالها.

لم تتوقف الأوجاع عند هذا الحد فقط، في شهر مايو الماضي، شن الاحتلال عملية عسكرية في مدينة رفح، فتكرر النزوح وتفاقمت المعاناة، لكن الحرب لم تكتف بذلك فأخذت منها زوجها ورفيق دربها شهيداً، إثر قصف الاحتلال قوات لتأمين شاحنات المساعدات شمال القطاع، لتبقى وحيدة تصارع للبقاء وحماية أطفالها من القصف والجوع والمرض.

مستقبل ضائع

في وجهٍ آخر للمعاناة، وقفت الخريجة الجامعية رحاب جلال _٢١ عام _ طالبة في قسم الأحياء بحامعة الأقصى_ تحت نخلة في مخيم الفجر بمواصي خانيونس، الذي نزحت إليه مع عائلتها، تحاول التقاط إشارة الاتصال بالإنترنت، لتتمكن من متابعة تسجيلها للفصل الجامعي، بعد أن أعلنت الجامعات في غزة استئناف تعليمها إلكترونيًا.

تقول رحاب :” كنت على أبواب التخرج بعد سنوات دراسة وتعب، مثل أي طالب جامعي، أحلم بيوم تخرجي، لكن الحرب سلبت مني هذا الحق، عام كامل جفت فيه آمالنا، وأصبحت الشهادة في نظري مجرد ورقة ستعلق في ركن خيمة النزوح بعد أن قصف الاحتلال منزلنا”.

تتابع :” لا يوجد لدي كتب أو رزم تعليمية فكلها ذهبت تحت الركام، والفيديوهات التي تنشرها منصة الجامعة لا يسعفنا الإنترنت لتحميلها، ناهيك عن بطاقات الإنترنت التي تمثل معاناة أخرى، فكل يوم أحتاج إلى 4 شواكل كحد أدنى، ما يثقل كاهل عائلتي، علماً أن لدى 5 أخوة انضموا للتعليم الإلكتروني والمدارس الافتراضية التي أعلنت عنها وزارة التعليم “.

في مخيمات النزوح تقضي رحاب وأخوتها يومهم في سباق مع الزمن، ما بين طابور تعبئة المياه الطويل، وتحضير الطعام على النار، أو طابور شراء الخبز، لينتهِ اليوم دون أن تكفي ساعاته لفتح منصة التعليم الجامعية، ومتابعة ما تم إدراجه.

طفولة مقهورة

في زقاق مخيم القادسية _غرب خانيونسثلاثُ طفلات يسحبن عربة تكدست عليها أكياس الخبز التي يبعنها، يتحدثن فيما بينهن عن منازلهن، ملابسهن وفساتين العيد التي اضطررن لتركها بسبب النزوح المتكرر.
حدثتني أكبرهن :” قال لي بابا أن بيتنا انقصف، وأن الأقمار الصناعية نشرت صور ظهر فيها بيتنا وحارتنا كلها مقصوفة”، تتساءل الصغيرة بكل براءة: وين هنروح لو انتهت الحرب وين هنعيش، هل هلاقي ألعابي وكتبي تحت الركام؟!.

وتتابع : ” يوم 7/10 كنا رايحين للمدرسة الصبح بدري، بدأت تنضرب الصواريخ، خفنا كتير، من يومها بطل في اشي حلو في حياتنا، بطل في مدارس، بطلت أشوف زميلاتي، قرايبنا كتير استشهدوا، ونزحنا وتركنا كل اشي حلو”.

خُرق ممزقة

انتهى أبو وائل حسنين (٥٥ عام) من دوره في طابور تعبئة المياه الطويل في مخيم طيبة بمدينة خانيونس ، وقف والعرق يقطر من جبينه، يشُد أطراف “الشادر” المهترئ، وبعض الستائر التي تحولت لخرق ممزقة، محاولا تهيئة ما يستطيع منها لتصلح لاستقبال فصل الشتاء.

يقول :” نزحت 8 مرات في كل مرة اضطررت فيها لفك الخيمة، ومن كثرة النزوح وأشعة الشمس اهترأت كل الأغطية والشوادر التي معنا، وها نحن مقبلون على الشتاء بأمطاره وبرودته ولا نملك أي استعدادات لاستقباله”.
يذكر أن أسعار النايلون و”الشوادر” والخيم ، ارتفعت بشكل غير مسبوق، مما يجعل شراءها صعب على النازحين، وذلك بسبب الحصار الإسرائيلي المتواصل على المعابر الحدودية منذ مطلع مايو الماضي، ومنع الاحتلال إدخال المواد اللازمة للإيواء.

إعدام أمام الأطفال

تجلس الحاجة أم علاء النقلة في خيمتها وحولها أحفادها الثمانية يكتسي أقدامهم غبار أزقة المخيم الذي نزحت له في مواصي رفح ، واسمرت بشرتهم بفعل أشعة الشمس الحارقة، فلا بيت يأوي ولا والد يسند تلك الأكف الصغيرة.

تقول أم علاء :” خلال العملية البرية في خانيونس كانت ابنتاي وأزواجهن ووالد أزواجهن في بيتهم، ليتفاجؤوا بتقدم للدبابات دون سابق إنذار في منطقتهم، وبدأت باقتحام منازل المواطنين بعد استهدافها بالمدفعية، وعندما وصلوا لمنزل بناتي فجروا مدخل المنزل وقاموا بإعدام أزواجهن ووالدهم، وأمروا بناتي بالخروج حاملات الراية البيضاء مع نساء المنطقة”.

تشير الجدة أم علاء لأصغر الأحفاد حولها وتقول :” هذا الطفل كان سيلحق والده حيث بكى بشدة واتجهت بندقية الجندي إليه، لكن أمه كتمت صوته ونفسه بيدها خوفًا من أن يتم قتله”، فيما قال أحد الصغار :” اليهود طخوا عمي وبابا وجدو قدامنا ودمهم غرق الأرض والفرشات خفنا كتير، ناديت على بابا بس ما سمعني “.

النار أكلت كل شيء

على شاطئ بحر خانيونس وضع عبدالله مقداد (٢٦ عام) _عبود كما يدعوه معارفه_ بسطته المتواضعة التي تحمل ملابس الأطفال الشتوية، وقف يفتش في وجوه المارة عن زبائنه الذي اعتاد التعامل معهم قبل الحرب ، يقول:” كنت أملك محلاً لبيع ملابس الأطفال والملابس النسائية والحقائب في حي تل السلطان برفح، وكنت دائمًا أسعى لتطوير مشروعي فمنه أعيل نفسي وعائلتي، لكن منذ بداية الحرب لم أذق سوى الحسرات والخسائر، ففي ثالث أيامها قصف طائرات الاحتلال المنزل المقابل لمحلي”.

” النار أكلت كل شيء ” استحضر عبود الموقف، فيخيل لك أنك ترى ظلال تلك النيران في عينيه وهي تقضي على حلمه ومصدر رزقه، يتابع :” بعد فترة استجمعت نفسي وبدأت من الصفر، لكن ضربة أخرى قسمت ظهري حيث استشهدت شقيقتي الوحيدة وجنينها وزوجها”.

لم يمهل الاحتلال عائلة عبود وقتًا حتى للحزن، فبعد يومين من ارتقاء شقيقته، تعرض حي تل السلطان للقصف وتم إخلاؤه بالكامل، ليصله لاحقًا خبر قصف منزلهم.

سلسلة حكايات أهل غزة خلال عام كامل لا تنتهِ، فما زالت نيران الحرب تأكل أمنهم ومستقبلهم، حتى إن اختلفت الوجوه و الأسماء، تبقى المعاناة واحدة، والوجع واحد، وحجمه يزداد مع مرور الأيام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى