
تقرير: سهر دهليز
في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، لا تزال معاناة الشعب الفلسطيني تتواصل، في مشهد يعيد إنتاج المأساة التي بدأت في الخامس عشر من مايو عام 1948، حين حلّت النكبة – الكارثة الوطنية الكبرى – بفقدان الوطن وتشريد ما يزيد عن 800 ألف فلسطيني.
لم تكن النكبة حدثًا عابرًا في التاريخ، بل بداية لمسلسل طويل من الاحتلال والشتات والتهجير القسري، لا تزال فصوله تتكرر حتى يومنا هذا.
ففي الحرب الجارية على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، يتعرض الفلسطينيون مجددًا لعمليات تهجير قسري ممنهجة، تُعد امتدادًا لسياسات إسرائيلية تهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، في انتهاك صارخ للقانون الدولي وحقوق الإنسان. وبينما يحيي الفلسطينيون ذكرى النكبة، يجدون أنفسهم أمام نكبة متجددة تُجسد استمرار الظلم التاريخي الذي لم ينتهِ بعد.
حرب غزة فصل جديد في النكبة
تمثل الحرب الجارية على قطاع غزة امتدادًا مأساويًا لنكبة عام 1948، إذ تعيد مشاهد الدمار والتهجير والمجازر إلى الواجهة من جديد. فكما هُجر الفلسطينيون قسرًا قبل 77 عامًا من مدنهم وقراهم، يتعرض اليوم أكثر من مليون ونصف مواطن في غزة لمحاولات اقتلاع وتهجير جماعي تحت وطأة الحصار والقصف والتجويع.
إن ما يجري في غزة هو نكبة متجددة، تسعى لتصفية ما تبقى من الوجود الفلسطيني على الأرض، ولكنها في الوقت ذاته تُرسخ التمسك بالهوية والصمود والمقاومة.
وبحسب إحصائية وزارة الصحة في قطاع غزة وصلت حصيلة الشهداء إلى 52,928، والإصابات إلى 119,846، منذ بدء العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر 2023.
وأن هذه الأرقام تعد دليلاً واضحاً على استمرار التصعيد العسكري في القطاع، وما يرافقه من معاناة إنسانية متزايدة، خاصة في ظل صعوبة وصول طواقم الإسعاف والإنقاذ إلى العديد من المناطق المتضررة.
النكبة وبداية التهجير المستمر
في عام 1948، ومع إعلان قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين في الخامس عشر من مايو، بدأت نكبة الشعب الفلسطيني، والتي تمثلت في واحدة من أكبر عمليات التطهير العرقي في التاريخ الحديث. نفذت القوات الصهيونية حملات ممنهجة شملت ارتكاب عشرات المجازر بحق المدنيين، أبرزها في دير ياسين، والطنطوره، واللد، إلى جانب تدمير أكثر من 500 قرية فلسطينية بالكامل.
أسفرت هذه العمليات عن تهجير قسري لأكثر من 800 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم، وتحويلهم إلى لاجئين موزعين على الدول العربية المجاورة ومناطق الشتات. لم تكن النكبة مجرد فقدان أرض، بل مأساة إنسانية شاملة دمّرت النسيج الاجتماعي والاقتصادي للشعب الفلسطيني، ولا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.
ورغم مرور أكثر من سبعة عقود، ما زال ملايين اللاجئين الفلسطينيين محرومين من حقهم في العودة إلى ديارهم، وهو حق مكفول بموجب القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وعلى رأسها القرار 194. لكن سياسات الاحتلال الاستيطانية والتهجيرية ظلت مستمرة، لتُبقي جراح النكبة مفتوحة، وتُعمق معاناة الفلسطينيين جيلًا بعد جيل.
الشتات ومخيمات اللاجئين
بعد نكبة عام 1948، لجأ مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى دول الجوار، بما في ذلك الأردن ولبنان وسوريا، بالإضافة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع غياب أي حل عادل لقضيتهم، تحولت المخيمات التي أُقيمت كحلول مؤقتة إلى كيانات دائمة، ما زال سكانها يعانون من ظروف معيشية صعبة حتى اليوم.
ويُقدّر عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا) بأكثر من 6 ملايين لاجئ، موزعين على 58 مخيمًا رسميًا في الضفة الغربية، غزة، الأردن، لبنان، وسوريا.
ورغم المعاناة، أصبحت هذه المخيمات حاضنة للهوية الوطنية الفلسطينية، وبيئة نشأ فيها جيل جديد متمسك بحق العودة، ومؤمن بعدالة قضيته، رافضًا التهجير والتوطين البديل.
النكسة وحرب 1967: نكبة ثانية
في الخامس من يونيو عام 1967، شنت إسرائيل حربًا خاطفة على ثلاث دول عربية (مصر، سوريا، والأردن)، انتهت خلال ستة أيام باحتلال مساحات واسعة من الأراضي، أبرزها الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، ومرتفعات الجولان السورية، وشبه جزيرة سيناء المصرية. وقد شكّلت هذه الحرب ما يُعرف بـ”النكسة”، لكنها بالنسبة للفلسطينيين كانت بمثابة نكبة ثانية.
أفضت النكسة إلى نتائج كارثية، أبرزها:
– تهجير أكثر من 300 ألف فلسطيني إضافي، كثير منهم كانوا لاجئين من نكبة عام 1948.
– خضوع كامل فلسطين التاريخية لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي، بما أنه أصبح يسيطر على الضفة الغربية وغزة إلى جانب الأراضي المحتلة سابقًا.
– انطلاق المشروع الاستيطاني الإسرائيلي رسميًا، وبدء إقامة المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، في تحدٍ مباشر للقانون الدولي.
– فرض نظام الاحتلال العسكري الإسرائيلي على الفلسطينيين في الضفة وغزة، بما رافقه من انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان.
جاءت النكسة لتُعمق المأساة الفلسطينية، حيث تم استكمال تهجير من نجا من نكبة 1948، وتوسعت مخيمات اللجوء في الداخل والخارج، وزادت معاناة الشتات. كما بدأت مرحلة جديدة من مقاومة الاحتلال، تزامنًا مع صعود العمل الفدائي الفلسطيني كوسيلة للتعبير عن رفض الاحتلال، وتمسّك الفلسطينيين بحقوقهم الوطنية، وعلى رأسها حق العودة.
لم تكن النكسة مجرد هزيمة عسكرية، بل لحظة مفصلية أعادت رسم خريطة الصراع في المنطقة، ورسّخت الاحتلال كواقع يومي في حياة الفلسطينيين، لا يزالون يعانون تبعاته حتى اليوم.
مشاريع التوطين ومحاولات شطب الهوية
منذ الخمسينات وحتى اليوم، طُرحت مشاريع دولية وإقليمية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة، لكنها جميعًا اصطدمت برفض فلسطيني قاطع.
وتمثلت مشاريع تهجير الفلسطينيين قسراً عبر العقود بالتالي:
– 1951–1953: خطة إعادة توطين فلسطينيي غزة في سيناء: والتي سعت فيها إسرائيل والولايات المتحدة إلى تهجير سكان غزة إلى سيناء مقابل حوافز مالية لمصر.
– 1953–1955: مشروع جونستون: الذي اقترح إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن مقابل مشاريع تنموية، لكنه قوبل بالرفض.
– 1959: خطة داغ همرشولد: دعم أمين عام الأمم المتحدة آنذاك مشروعًا لاستبدال “الأونروا” وإعادة توطين اللاجئين في الدول العربية والإسلامية مقابل تنمية شاملة.
– 1970: خطة أرئيل شارون: والتي اقترح فيها إخلاء قطاع غزة وتهجير سكانه إلى سيناء والعريش بهدف القضاء على المقاومة الفلسطينية.
– 2000: مقترح بيل كلينتون: تضمن إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية والإسلامية، مع السماح لعدد محدود بالعودة إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية.
– 2020: “صفقة القرن” الأمريكية: دعت إلى إعادة توطين الفلسطينيين في الدول العربية والإسلامية، مع إلغاء حق العودة.
– 2025: مشروع دونالد ترامب: اقترح إخلاء قطاع غزة من سكانه وتهجيرهم، مع تحويل القطاع إلى منطقة سياحية تحت سيطرة أمريكية.
حق العودة: جوهر النضال الفلسطيني
يُعدّ حق العودة أحد الركائز الأساسية للقضية الفلسطينية، وجوهر المطالب الوطنية التي لا تقبل التنازل. يتمسك الفلسطينيون بهذا الحق استنادًا إلى قرارات الشرعية الدولية وفي مقدمتها:
– قرار الأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948، الذي ينص على وجوب السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم التي هُجّروا منها، وتعويض من لا يرغب في العودة.
– مبادئ القانون الدولي، التي تجرّم التهجير القسري وتؤكد أن حق العودة حق فردي وجماعي غير قابل للتصرف أو السقوط بالتقادم.
ورغم مرور أكثر من 75 عامًا على النكبة، لا يزال حق العودة حيًّا في الوجدان الشعبي الفلسطيني، حاضرًا في الخطاب السياسي، وراسخًا في وعي الأجيال الجديدة التي نشأت في المنافي والمخيمات. إنه ليس مجرد مطلب سياسي، بل تعبير عن العدالة والكرامة، وعن ارتباط الفلسطيني بأرضه وتاريخه
الأنروا: الشاهد الحي على النكبة
تُجسّد وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي تأسست عام 1949، أحد أبرز الشواهد الدولية على النكبة المستمرة ومعاناة اللاجئين الفلسطينيين.
أنشِئت الأونروا لتوفير الإغاثة والخدمات الأساسية للاجئين، لكنها تحوّلت مع مرور الوقت إلى رمز لصمود قضية اللاجئين في وجه محاولات التصفية.
– تدير الوكالة أكثر من 700 مدرسة تقدم التعليم لمئات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين.
– وتشغّل نحو 140 مركزًا صحيًا في مناطق عملياتها الخمس: الضفة الغربية، غزة، الأردن، لبنان، وسوريا.
– تُقدّم خدماتها لأكثر من 5.9 مليون لاجئ فلسطيني مسجّل.
ورغم الضغوط المتواصلة ومحاولات إنهاء عملها أو تقليص دورها، تظل الأونروا شاهدًا دوليًا على استمرار النكبة، وعلى عجز المجتمع الدولي عن إيجاد حل عادل ودائم لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
لم تكن النكبة حدثًا عابرًا في تاريخ الشعب الفلسطيني، بل بداية لمأساة مستمرة فصولها حتى اليوم، و ليست صفحة من الماضي، بل جرح مفتوح لا يلتئم. ما بين المخيم والمنفى صاغ الفلسطيني هويته المقاومة، وظلّ صوته يعلو في وجه النسيان والتطبيع والخذلان.
ورغم محاولات التهجير والتوطين، لم يُمحَ الحنين، ولم تُسقط الحقوق. سيبقى حق العودة عنوانًا للنضال، ووصية لا تسقط، ما بقيت المفاتيح معلقة على جدران البيوت، وما دام جيلٌ يسلم الراية للجيل الذي يليه. النكبة ليست ماضٍ يُطوى، بل حاضر يُقاوَم، ومستقبل يُنتَزع.